الخميس، 27 أبريل 2017

شمس الحياة - ملاحظات وخواطر في حضرة المسرح الحر ...د علي محمد سعيد

شمس الحياة -  ملاحظات وخواطر في حضرة  المسرح الحر
د. علي محمد سعيد
لعل من ابرز الظواهر  في الساحة  المسرحية العالمية والاقليمية والمحلية واعظمها  هو مهرجانات المسرح والتي تكتسب هذه السمة  من ماتقدمه من فوائد جمة للمسرح وللمتلقي فهي تظاهرات جميلة ومشرقة  تبهج الارواح وهذا ماتؤكده وتتضمنه المفردة نفسها  (مِهْرَجَانُ) فهي كما جاءت في معجم المعاني الجامع : احتفالُ الاعتدال الخريفى ، وهى كلمة فارسية مركبة من كلمتين : الأّولى : مِهْر ، ومن معانيها الشمس ، والثانية : جان ، ومن معانيها الحياة أو الروح، وساحاول هنا في هذه المساحة استعراض بعض الملاحظات والخواطر لواحد من اهمها – في تقديري، وساحاول تبيان ماقصدته باهمية هذه التظاهرة والتي كانت بداياتها الرسمية في العام 2011 في السودان . وقطعا هي ليست نبتا شيطانيا فلها ارهاصات واشارات اولى ولكن ذلك خارج اطار حديثنا هنا .
 يطرح تساؤل عن المسرح الحر ماهو ؟ نقول ان المسرح الحر كمفهوم وممارسة معروف على مستوى المسرح العالمي ونظرياته وهناك العديد من الممارسات المسرحية جاءت تحت هذا المسمى ..ولكن مسرحنا الحر  لا يأبه ولم يتقيد بتأطيرها النظري له وهذا ليس تعاليا عليها وعلى الخبرة الانسانية بقدر ماهو خصوصية له فرضتها ظروف تكوينه الخاصة جدا، وهو مبذول لها لمدارسة تقاطعاته معها وان تبحث هي عن مقاربة ذلك معها ومع محمولها لهذا المعنى ان كان مستقرا ومحدد، فهو كما تخلق عندنا يتضمن  التجلي لمفاهيم الديمقراطية والمدنية على المسرح..وهو مايشير الى اتاحة الفرصة لكل من يطلق على نفسه صفة مسرحي وبالتساوي حيث لا اعتبار للعرق ولا الجغرافيا ولا الدين ولا اللون ولا المعتقد ..وبغض النظر عن اللونية التي يتبناها او النظرية او المنهح الفني الذي ينطلق منه وبغض النظر عن الخبرة الاكاديمية او التطبيقية التي يتمتع بها ..وهذا يجئ في اتساق تام  مع  المعلن من اهدافه الساعية الى تكوين مختبر يساهم في تحريك الساكن المسرحي وفتح فضاءات واكتساب مناطق جديدة وجمهور جديد للمسرح .. بالاضافة الى تطوير الفعل المسرحي نفسه..وهذه الاهداف ابنة الضرورة التي  فرضها واقع الممارسة واحتكاريتها لمصالح خاصة وحراسة ذلك بسلط مختلفة مادية ومعنوية ..المسرح الحر ياسادتي في اوضح معانيه انه  منبر للمسرح ولكل من يانس في نفسه الكفاءة ليقف امام الجمهور ويعبر عن نفسه من خلال المسرح ..هذا هو العماد والشرط  الاساسي والوحيد ان تملك ماتريد قوله ..وكل مايلي ذلك من اشتراطات فنية او جمالية  هو من ثانويات الامور بما في ذلك الامكانيات المادية ..المسرح الحر السوداني هو فعل جوهري ومسؤول وعلى هذا فهو يكيف المكان والزمان ولايتقيد بشروطها وعلى هذا فهو مسرح يقام على المسارح المجهزة ويقام على مساطب الاندية وعلى ساحات الحدائق والشوارع والاسواق ..وهذا مستنبط مما حققه المسرح الحر فعليا وعلى ارض الواقع ولم نفعل اكثر من وصف ماجرى   فدورات المسرح الحر  اقيم بعضها على مساطب غير مجهزة وبعضها على اكثر المسارح تجهيزا في السودان ونقول انه طالما وجد جماعة من الناس فهذه بيئة مناسبة له فالثابت الوحيدوالمشترك بين كل تجاربه كان هو الممثل الذي يريد ان يقول شيئا والجمهور الذكي.. اما بقية الاسئلة عن كيف ذلك ؟ فاجابة الواقع والتاريخ عليها انه  يعمل وفق تحالفات تكتيكية واستراتيجية مع الجهات ذات الصلة طالما ان ذلك لايمس مضمون العمل ولا يوجه الخطاب العام..
خصوصية تعريف المفهوم والتي لاتدين للمتعارف عليه كما اشرت اليها لا تعني التعالي على الخبرة الانسانية بقدر ماهي تدين الى خصوصية التجربة المسرحية في السودان فهي الحاضن والمفسر لبروز المسرح الحر وتبلوره كممارسة ضرورية يتساوى وجودها مع الوجود المعافى والمستنير للمسرح عندنا ، فالممارسة المسرحية عندنا اتخذت اتجاهات متباينة ولكنها تشترك في كونها تنأى عن التراكم المفضي للتطور حيث ان فرع منها اتخذ الطريق السهل للنجومية السريعة حتى ( انمسخ) وعاد الى طفولة التجربة المرتبطة بالمونولوج والنكتة . وجانب اخر اصبح عينه على الربح وهذا ارتبط ب" تجار المسرح الجدد" وهم فئة ذات ارتباط مريب بالسلطة ولايعنيهم المسرح فهم يستسهلون بابعاده المعرفية وادواره الاجتماعية ولا يمثل لهم  الا بمقدار مايضيف الى جيوبهم وهؤلاء (والحمد لله) قادهم ذلك - بقدر كبير ،الى التلفزيون ودرامته واعلاناته . وبالطبع هناك بعض التجارب الفردية لبعض مثقفي المسرح والذين ظلو قابضين على جمرته ولكن صفتهم هذه- اي الفردية، هو مايعيب تجربتهم ويكاد يجعلها بلا تاثير يذكر .اما الجذر الاساسي للمسرح فصار ملكا (حرا)  لصوت واحد يصيغ له التصورات والقوانين ويعرف المسرح في السودان باسمه في كل المحافل المحلية الرسمية والاقليمية والعالمية !!ويعينه في ذلك زمرة من الاكاديميين والساسة والصحافيين والمتصوفة !! ومع غياب المواسم المسرحية المنتظمة ( وله في ذلك يد طولى بلا شك) صار هو الصوت الفرد و الوحيد للمسرح.
اذا،فالمحفز الاول والحاضن الاوحد لبروز المسرح الحر السوداني كان هو بلا شك  الظرف العام بانغلاقه الا من مسارب لا تحتمل طاقة وجود المسرح الكمية والنوعية ولهذا فكان لابد من حدوث  اختراق ما، اختراق لصالح المسرح والممارسة الحرة التي تراهن على تراكم مثمر وايجابي يوسع من فضاءات الممارسة ويعيد للمسرح وجوده كمنبر جماهيري ويعيد للجماهير ثقتها فيه كخطاب مفتوح ومحفز ومبتدر للنقاش . منبر مفتوح يعبر من خلاله وبادوات المسرح كل من يرغب دون نظر الى انه من الاقاليم او من الاقانيم !! من المركز او من الهامش، مع السلطة او ضدها ،عميق كان او ضحل، وسيم او دميم ..باختصار فالممارسة المسرحية كان لابد لها من ممارسة الديمقراطية قبل ان تنادي بها ..ان تنبذ الصوت الواحد فيها قبل ان تبشر بنبذه على مستويات اخرى ..ومن هنا كان المخاض الذي انبثق من رحمها المسرح الحر السوداني.
عليه، يكون الوصف الانسب للمسرح الحر انه ( اختراق موضوعي نتج عن حاجة وجودية ومعرفية وجمالية وكخطوة في سبيل تطبيق وتنزيل مفاهيم الديمقراطية والمدنية على الممارسة المسرحية في السودان)، وكذلك فهو ( إشارة الى ضرورة الانتباه الى معوقات الحركة المسرحية وقيودها)  وهي ليست كثيرة ولكنها قوية ومحكمة الاغلاق وهي استجابة وتماهي مع مفاهيم اجتماعية - بالمعنى الواسع - متداخلة يمسك بعضها بعجيزة بعض : مثل (القبيلة وشيخها )، )المركز المتورم بكل شئ على حساب الاطراف الهزيلة)، (العرض والطلب، والربح والخسارة، والتسليع للقيم والفكر)، ( الصوت الواحد، الحزب الواحد(، ) العنصرية واقصاء الاخر والشلليات )...الخ . ولا ينكر الا مكابر ان هذه عناوين تصلح لتحليل واقع المسرح في السودان وعلى هذا يصح القول  ان المسرح الحر برز بوعي يناهض ويقول ان هذا ممكن ..ممكن ان يكون هناك فعل معافى ومخفف من هذه الاحمال، فعل لا يدين الا للحق والخير والجمال، ويضع عينيه صوب مستقبل افضل يقوده المسرح في مستواه العام ، واضافة لتجربة المسرح ذات خصوصية ويمكن ان تدرس وتعمم ويستفاد منها . وقيمة المسرح الحر كما هي متبدية بوضوح  انه لم يراهن على حلول او وصفات جاهزة بل قام باستنباط الياته وادواته واختبرها وكل هذا في اطار واقعه المعشوشب بالطفيليات والذاخر بنباتات الزينة والظل.
ولا مناص هنا ان يطرح التساؤل الاتي نفسه : هل استطاع المسرح الحر عندنا ان يحقق ماذهبت اليه الكتابة السابقة ام ان هذا مجرد تنظير ؟ بمعنى اوضح هل استطاعت تجربة المسرح الحر بدوراتها الستة  ودورتها التاسيسية الاولى والتي كانت تحت عنوان (اسبوع مسرح الشباب) ان تحقق قيم الديمقراطية والمدنية المفتقدة في حركتنا المسرحية ؟ وهل استطاعت ان تتخفف من اعباء الاشكاليات المزمنة التي ظلت ترزح تحت وطأتها الخانقة حركتنا المسرحية ؟ الاجابة على هذه التساؤلات عندنا ووفق ملاحظاتنا المؤسسة على الحقائق والاحصاءات هي بالايجاب ، الايجاب  المدعوم بشواهد كثيرة ومتاحة ومبذولة على العموم لكل باحث ومهتم ، ولا يسع المجال للتفصيل فيها  عليه ساقوم بانتخاب شواهد يمكن ان تدلل علي ذلك :
اتاح المسرح الحر الفرصة لاي عرض تقدم له ولم يرفض عرضا قط لاي اعتبار ولم توضع له شروط فنية لقبول او رفض الاعمال. وشارك فيه مسرحيون فاقت تجربتهم الاربعين والخمسين عاما بجانب اخرون كانت مشاركتهم فيه هي تجربتهم الاولى في المسرح . وهذا ليس استسهالا للمسرح بقدر ماهو اعتراف بحق اي ممارس في ممارسة المسرح وكذلك هو اعتراف بان الجمهور هو صاحب التقييم . ولم تقتصر المشاركات فيه في اي من دوراته على جغرافيا معينة سواء كانت داخل او خارج السودان.
الفكرة المؤسسة لادارة المسرح الحر تتخطى حدود المركز فاعضاؤه منتشرون في كل ولايات السودان التي استجابت للدعوة وكذلك فله اعضاء خارج اطار السودان وهم اعضاء كاملوا الاهلية والحقوق ومشاركين في نقاش كل التفاصيل. وعضويته مفتوحة لكل من يرغب.
بعض الدورات اقيمت على مساطب اسمنتية وباضاءة الشمس !! وبعضها اقيمت في مسرح مجهزة  باضاءة حديثة ومعينات عرض  تم استجلابها من خارج حدود السودان.
بعض الدورات قامت بالجهد الذاتي للمشاركين وبعضها قام بدعم من بعض الوزارات وبعض المثقفين في المهاجر وبعضها تم برعاية المجلس القومي . ولم يحقق او يقصد تحقيق اي ارباح
استنهض مثقفين من خارج المسرح للمشاركة في منتدياته بغرض اضافة اصوات ورؤى جديدة وكسر التكرار والاجترار السائد
ابتدع طريقه الخاص في تنظيم النقد التطبيقي ووجهه لقياس المؤشرات والاتجاهات العامة وهذا بالتكامل مع تقرير لجان التحكيم التي حاولت رصد الممارسة بالنسب المئوية مع بذل النتائج للنقاش العام ..تحت الشمس
وتجربة المسرح الحر لم تتوقف على حقيقة انها مسار لتراكم ايجابي يفيد حركة وتطور المسرح فكريا وجماليا فقط ..فهي ذات تاثيرات اخرى على البيئة العامة ولها مداخل ومواقع ومستويات اخرى يمكن قراءة تاثيراتها فيها ومن خلالها فهي قد وضحت حقائق ابرزها ان المسرح ينشأ بالوعي والاصرار قبل ان يكون فعلا نبيلا مجسدا على الخشبة وان صناعته لا تقوم فقط بامرة شيوخ القبيلة وانه ليس من ضروب السحر المملوكة اسراره وطلاسمه لتمتمات شفاه معينة .هذه الحقيقة البديهية التي اكدها المسرح الحر والتي رفعت حواجب الدهشة لدى العديد من المسؤلين عن حركة الثقافة فهي ايضا هددت مصالح من كان يروجون لعكسها ويتكسبون من طرحهم لذاتهم كسحرة لا ترفع الستارة الا استجابة لطلاسمهم ذات القرابين الباهظة ..القرابين التي يبذلها (رعاة) بطيب خاطر ومن هنا فالتجربة فتحت ابوابا ونوافذ دخلت منهانسائم للبعض وللبعض اعاصير!
اذا، فالمسرح الحر مارس فعل الوعي على مستويات متعددة من بينها انه وضح ان التنظيم للفعل المسرحي يمكن ان يكون بدروب وطرائق متاحة فخلف الجدار الهش تحتجز طاقات تؤمن بالفعل كقيمة في حد ذاته، وهم قوم مؤمنون بفكرهم وعلى استعداد لبذله بمقابل اسماع صوتهم والمساهمة في تطوير مجتمعهم وبالتالي فهذا جعل هناك اعادة نظر وتقييم للمسرحي وممايزة له عن باقي حرفيين الارض وهذا بقدر ماهو مدعاة للاعجاب الا انه ايضاً مدعاة للتساؤل..تساؤل عن اصل الصورة الذهنية التي كرستها الممارسة السابقة وصورت المسرحي باعتباره حرفي يقبض الثمن مقدما قبل ان يعتلي الخشبة ..وتساؤل ايضا عن ذاك الفقر الفائح رغم البذل وتساؤل ايضا عن واذا كان الحال كذلك فلماذا هناك (نفاج) واحد وصناع الفعل محتجزون خلف الجدار ؟ ولمصلحة من تم هذا ؟ والاسئلة تتناسل وتنمو وتجذب الغطاء رويدا رويدا وتبدأ الملامح في التكشف ..وتستدعي الاسئلة شواهد وتدخل ملاحظات من شاكلة ( واذا كانت الدولة هي ام المسرح فلماذا يجوع طفلها الرضيع " ايام الخرطوم المسرحية" حتى الموت بينماتبذل حليبها سخيا لطفل ليس من صلبها ؟ واسئلة وملاحظات اخرى غير مترابطة ظاهريا ولكنها في محصلتها ستشكل ملمحا كليا للصورة .
      في ختام هذه الملاحظات  تجدني وانا اتامل في ذكريات وتاريخ هذا الفعل - لا املك الا الدهشة والاحترام له.. مسيرة من العرق والجهد والمثابرة والاصرار .تكبر وتتطور في كل عام وتطرح ثمارا مغايرة ..تجربة فريدة تحتل مكانها في تاريخ وواقع الحركة المسرحية في السودان ..ابتدأت من دكة غير مجهزة وليس فيها ادنى متطلبات المسرح ؛ فانظر اليها الان ! والى ماذا صارت ! من خلال وقائع ماجرى في الستة اعوام المنصرمة نستطيع الزعم انها :
# استاطعت التجربة وعبر مسيرتها ان توحد مسرحي السودان من ولايات مختلفة ودول مختلفة في اطار واحد له سماته الفنية والفكرية
# ساهمت في اضاءة الجوانب المعتمة في خارطة المسرح السوداني وفضت الاحتكار سواء على مستوى الممارسة او الاعلام عبر تنشيطها للفرق وللنشاط في معظم الاطراف البعيدة عن المركز .
# خلقت شراكات ادارية استراتيجية مع جهات مختلفة واستطاعت ان تؤكد على حقيقة انه مركز يرتبط بينيا مع مجالات المجتمع عبر تلاقيه مع علومها المؤسسة وان له قدرة الاضافة لها بنفس مقدار استفادته منها .
# رسخت من مفهوم المسرح باعتباره ممارسة مدنية يمكن ان تكون له اسهاماتها في الشأن العام .
# خلقت نموذج ملهم استفادت منه تجارب لاحقة على مستوى التخطيط والادارة بالمتاح من الموارد .
لكل هذا ؛ ولغيره ، وجب على صناعها ان يفخروا بانجازهم وان يعلموا ان مابذلوه من جهد وعرق وزمن وفكر قد اتى اكله ..مانحتوه على صخرة الواقع البائس باياديهم النحيلة واظافرهم المثلمة صار لوحة لا تخطئها العين ولا يتخطاها النظر  .
فالتحية لكل من اسهم في تحقيق هذا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق