حكايتي مع معهد الموسيقى كاملة
سيف عثمان
سيف عثمان
1
لم اكن قد زرت المعهد قبل ان ارسلوني من مكتب القبول لأجراء المعاينة..موسيقي من فرقة الخرطوم جنوب وصف
لي الموقع في شمبات..كان دقيقا الي حد
ادهشني حين وجدت نفسي امام مدخل بناية الموسيقى الكئيبة..اللجنة (قاعدة)
لكن لم يكن هناك من يعاينونه
سواى.سألوني ان كان على استمارتي دمغة فأجبت بالنفي،قالوا لابد من دمغة قبل المعاينة، وارسلوني الي مكتب
الموظفات..ثلاث موظفات احداهن اسمها ناهد ان
لم تخني الذاكرة..كانت حيوية وداعمة، وهي صفات ميزت موظفي ذلك المكان كما
سألمس فيما بعد..ارسلتني الي بناية الدراما حيث
سأجد الدمغة لدى صاحب (طبلية) يبيع
السجائر والحلوى والدمغات الحكومية..هناك لم يكن من بائع ولا طبلية ولا اي
احد يمكن سؤاله..عدت لمكتب
الموظفات فأخذت ناهد استمارتي وقالت لي ان ادخل على اللجنة واخبرهم انني دمغت الأستمارة وسلمتها
للمكتب،وستضع هي الدمغة بنفسها حين تجد الرجل ( الدامغ) ففعلت.
كنت وحدي..عاينوني جيدا..اعلمتهم انني مغني وانني اغني منذ المرحلة الابتدائية..كنت احفظ الكثير من الغناء السوداني، الي جانب كل عبدالحليم حافظ تقريبا، وبعض فيروز، وعبد الكريم عبد القادر.. مغني كويتي كنت- ومازلت- اعشق صوته ولا يطربني احد كما يفعل..لم اكن اعزف على آلة موسيقية اذ لم يكن ممكنا ادخال واحدة الي البيت في وجود ابي وامي..عزفت قليلا على الريكوردر.. تلك الصفارة البلاستيكية ،واقتنيتها في مرحلة ما قبل ان يغيبها ابي او امي- لست اكيدا- الي الأبد .
صرفوني فغادرت ثم لحق بي بروفيسور الفاتح الطاهر وكان حينها(90-91) رئيسا لقسم الموسيقى كما سأعرف فيما بعد..وضع ذراعه على كتفي في حركة صداقة مؤثرة ومشى معي قائلا لي انهم قد قبلوني وأن مبروك.كانت ناهد تنتظر لمعرفة ماتم فقال لها البروف :
- قبلناه ليك، هو قريبك ولا شنو؟ اجابت بأنني قريبها، ولم اكن في الحقيقة، لكنها كانت انسانة ودودة وبالغة التعاطف..قالت لي عبارة لن انساها:
- انشاالله بعد ده كلو ينفع فيك.
اليوم وبعد كل هذا الهول لست موقنا مما اذا كان قد ( نفع فيني) ام لم يفعل ، لكن ما انا موقن منه جدا هو امتناني الأبدي لتلك المرأة الأنسانة التي لحظت ارتباك طالب غر تفوح منه رائحة الثانوية فطمأنته ويسرت عليه الأمور.
2
في معاينة التخصص اخترت قسم الصوت..مغني ولا اجيد عزف آلة موسيقية..نشروا بعد ايام قائمة بأسماء طلاب الصوت موزعين على اساتذة الصوت.. لم يكن اسم الأستاذ مدرجا امام اسمين في القائمة:اسمي وزميلي ابراهيم ابنعوف.. ذهبنا لمقابلة رئيس القسم الذي افادنا بثاثر واضح ان عدد الطلاب اكبر من قدرة الاساتذة، وان كل استاذ قد (أخد كفايتو) على حد تعبيره..سألته كيف اتفق ان يتم استبعاد هذين الاسمين بالذات، هل تمت قرعة ام ماالذي تم فعلا.. قال-متفاديا الأجابة- انه لا يستطيع الزام اي استاذ بان يقبل تدريس طلاب اكثر مما هو مقرر له..قال لنا ان نذهب و(نحنّس) الأساتذة، وان قبل احدهم تدريسنا فهو لن يمانع...
كان احد اساتذة الصوت من كوريا وهو الأفضل، ولذا كانوا يرسلون له طلابا من ابناء الفنانين او الاساتذة كما حدث لنزار الماحي سليمان مثلا.. ولم يكن من الاساتذة الممكن ( تحنيسهم) بأية حال..مما يترك امامنا الأستاذ عثمان مصطفى المغني المجيد واستاذ الصوت النادر..لم يكن لي سابق صلة به ومع هذا حاولت ان يقبل تدريسي ورفض بحجة صادقة: مزدحم بالدارسين.
زميلي ابراهيم ابنعوف قال لي انه ( بيعرف ليهم) ، وكان على معرفة بالأستاذ اميقو عليه الرحمة فطلب نجدته، ونجح مسعى استاذ اميقو فقبل ابراهيم لدراسة الصوت وتركني في العراء.لم اكن اعرف اميقو، ولم اعرفه – للأسف- فيما بعد..على قدر تقديري له بقي هذا التقدير مخفيا، وظللت اخافه واتحاشاه.
قلت لرئيس القسم أني سأدرس البيانو طالما ليس من سبيل لدراسة الصوت..على الأقل سأتمكن من اداء تدريبات الصوت، وربما اصبح عازف بيانو جيد فأصاحب نفسي في الغناء..فجعني بأنه للأسف لا سبيل لدراسة البيانو، لأن اساتذة البيانو ليس لديهم مقعد شاغر لدارس اضافي..وانه عليّ الأختيار فقط بين الفلوت والكمان ان كنت ارغب بالدراسة في ذلك المكان...
كنت وحدي..عاينوني جيدا..اعلمتهم انني مغني وانني اغني منذ المرحلة الابتدائية..كنت احفظ الكثير من الغناء السوداني، الي جانب كل عبدالحليم حافظ تقريبا، وبعض فيروز، وعبد الكريم عبد القادر.. مغني كويتي كنت- ومازلت- اعشق صوته ولا يطربني احد كما يفعل..لم اكن اعزف على آلة موسيقية اذ لم يكن ممكنا ادخال واحدة الي البيت في وجود ابي وامي..عزفت قليلا على الريكوردر.. تلك الصفارة البلاستيكية ،واقتنيتها في مرحلة ما قبل ان يغيبها ابي او امي- لست اكيدا- الي الأبد .
صرفوني فغادرت ثم لحق بي بروفيسور الفاتح الطاهر وكان حينها(90-91) رئيسا لقسم الموسيقى كما سأعرف فيما بعد..وضع ذراعه على كتفي في حركة صداقة مؤثرة ومشى معي قائلا لي انهم قد قبلوني وأن مبروك.كانت ناهد تنتظر لمعرفة ماتم فقال لها البروف :
- قبلناه ليك، هو قريبك ولا شنو؟ اجابت بأنني قريبها، ولم اكن في الحقيقة، لكنها كانت انسانة ودودة وبالغة التعاطف..قالت لي عبارة لن انساها:
- انشاالله بعد ده كلو ينفع فيك.
اليوم وبعد كل هذا الهول لست موقنا مما اذا كان قد ( نفع فيني) ام لم يفعل ، لكن ما انا موقن منه جدا هو امتناني الأبدي لتلك المرأة الأنسانة التي لحظت ارتباك طالب غر تفوح منه رائحة الثانوية فطمأنته ويسرت عليه الأمور.
2
في معاينة التخصص اخترت قسم الصوت..مغني ولا اجيد عزف آلة موسيقية..نشروا بعد ايام قائمة بأسماء طلاب الصوت موزعين على اساتذة الصوت.. لم يكن اسم الأستاذ مدرجا امام اسمين في القائمة:اسمي وزميلي ابراهيم ابنعوف.. ذهبنا لمقابلة رئيس القسم الذي افادنا بثاثر واضح ان عدد الطلاب اكبر من قدرة الاساتذة، وان كل استاذ قد (أخد كفايتو) على حد تعبيره..سألته كيف اتفق ان يتم استبعاد هذين الاسمين بالذات، هل تمت قرعة ام ماالذي تم فعلا.. قال-متفاديا الأجابة- انه لا يستطيع الزام اي استاذ بان يقبل تدريس طلاب اكثر مما هو مقرر له..قال لنا ان نذهب و(نحنّس) الأساتذة، وان قبل احدهم تدريسنا فهو لن يمانع...
كان احد اساتذة الصوت من كوريا وهو الأفضل، ولذا كانوا يرسلون له طلابا من ابناء الفنانين او الاساتذة كما حدث لنزار الماحي سليمان مثلا.. ولم يكن من الاساتذة الممكن ( تحنيسهم) بأية حال..مما يترك امامنا الأستاذ عثمان مصطفى المغني المجيد واستاذ الصوت النادر..لم يكن لي سابق صلة به ومع هذا حاولت ان يقبل تدريسي ورفض بحجة صادقة: مزدحم بالدارسين.
زميلي ابراهيم ابنعوف قال لي انه ( بيعرف ليهم) ، وكان على معرفة بالأستاذ اميقو عليه الرحمة فطلب نجدته، ونجح مسعى استاذ اميقو فقبل ابراهيم لدراسة الصوت وتركني في العراء.لم اكن اعرف اميقو، ولم اعرفه – للأسف- فيما بعد..على قدر تقديري له بقي هذا التقدير مخفيا، وظللت اخافه واتحاشاه.
قلت لرئيس القسم أني سأدرس البيانو طالما ليس من سبيل لدراسة الصوت..على الأقل سأتمكن من اداء تدريبات الصوت، وربما اصبح عازف بيانو جيد فأصاحب نفسي في الغناء..فجعني بأنه للأسف لا سبيل لدراسة البيانو، لأن اساتذة البيانو ليس لديهم مقعد شاغر لدارس اضافي..وانه عليّ الأختيار فقط بين الفلوت والكمان ان كنت ارغب بالدراسة في ذلك المكان...
3
الكمان؟؟؟ لم اتصور نفسي قط عازف كمان..احب صوت الكمان واتمتع به حين يعزفه العازفون الجيدون. لكن ان اعزفه انا؟؟ بدا لي ذلك مستبعد جدا.. الفلوت؟؟؟ احب الفلوت واتصور نفسي قادرا على التعامل معه..لي سابق خبرة طفولية مع النفخ على الريكوردر.. لكنني مغني وقضيتي هي الغناء..كيف اغني وانفخ الفلوت؟؟
نصحني البروف بأن اذهب الي بيتنا وأقضي ثلاثة ايام افكر خلالها جيدا فيما ارغب بفعله ثم اعود لأطلعه على قراري..الدراسة كانت مستمرة في الجانب النظري والعملي بالنسبة للطلاب الذين لم يواجهوا مشاكل من هذا النوع..قال لي:
- المعهد ده مابيخرج فنان..انت ممكن تبقي اي شئ انت عايزو من اي قسم..المهم تكون هنا وتجتهد وتركز.
ذهبت وقضيت ثلاثة أيام ببيتنا افكر كما نصحت..كمان ام فلوت..فلوت ام كمان..صليت كثيرا تلك الأيام راجيا الله ان يلهمني الصواب.
عدت في اليوم الرابع صباحا، دخلت مكتب البروفيسور مباشرة وقلت بأختصار شديد:
- أريد الفلوت
قال لي ببساطة مؤذية:
- والله معليش لكن آخر فلوت شالتو اماني(يعني الزميلة اماني ابو زيد بنت دفعتنا)..وأردف:
- يعني بعد كده ماعندنا ليك آلة..لكن لو بتقدر توفر فلوت اسه نختك مع احسن استاذ..
لم اكن قادرا على توفير ( قصبة راعى) في ذلك الوقت..ولم اكن ارغب بتوفير اي شئ .
قال البروف مبتسما وصادقا:
- ياخ الكمنجة مالا؟ ما ستّ الآلات.. وعندنا آلات جديدة جات من كوريا نسلمك كمنجة اسه ونوديك لي احسن استاذ كمنجة عندنا.
كررت باسى ان ستّ الآلات علي عيني، لكني لا اشعر تجاهها بألفة كافية، وتقدمت بأقتراح جديد هبط علىّ كأن من السماء:
- سآخذ الجيتار..يستهويني الجيتار.. وهو آلة ممتازة لمغني..نعم اعطوني جيتارا
البروف الذي يبدو انه كان مكرسا لأحباط شخصي الضعيف اجابني:
- ماممكن..اولا ماعندنا ليك آلة، وحتى لو دي اتحلت مافي استاذ جيتار الآن في المعهد..نحنا عندنا خريجة السنة دي حاتخرّج نفسها براها لأنو استاذا مافي( كان الدكتور الفاتح حسين في روسيا وقتها لعمل دراساته العليا)
4
( حردت) وقلت انني لا اريد تخصصا عمليا لكني سأبقى بالمعهد واكمل دراستي نظريا فلربما اصير ناقدا موسيقيا .
استرضاني البروف وطلب الي الذهاب الي البيت ( للتفكير) والعودة لقبول الكمنجة او قبول الكمنجة.لم احتج لثلاثة ايام ..عدت في اليوم التالي ،دلفت الي المكتب في الصباح وقلت دون القاء التحية:
- ادوني كمان
تبسم الدكتور كاشفا عن اسنانه الذهبية، واثنى على رجاحة عقلي وقال لي سترى انك ستحب الكمان وتبرع في العزف عليه. قيّد اسمي علي لائحة طلاب الكمان الذين لم يكونوا جميعهم قد تسلموا بعد آلاتهم ووزعوا على الأساتذة .
وجاء يوم توزيع آلات الكمان..احتشدنا جميعا بمكتب رئيس القسم بحضوره والأستاذ اميقو عليه الرحمة، بدأ البروف يأخذ الآلات واحدة اثر واحدة وينادي على الطلاب بالترتيب ويسلمهم آلاتهم..آلات جديدة حقا حقائبها السوداء شديدة اللمعان.
بقيت آلتان وبقينا طالبين..أنا وزميلي عاصم خضر الذي كان يرغب اصلا في الكمان..أخذ البروف الآلتين وفتح دولابا في المكتب حشرهما داخله ثم اغلقه وهو يقول:
- ديل والله موصينّي عليهم..واحدة لي نجلاء والتانية لي ....(سقط الأسم من ذاكرتي)
لم تكن نجلاء ولا زميلتها قد زاولتا الدراسة حتي ذلك الحين..وكنت وعاصم حاضرين منذ البداية ودائما في الوقت المحدد وبلا دراسة عملية من اي نوع..
هل صدمنا؟؟ عاصم فعل اما انا فلا..كأنه لم يكن سيصدمني لو ان البروف استلّ خنجرا من حزامه وأغمده في صدري..حقيقة لا مجازا..لكنا بقينا علي اية حال مسمرين في مكانينا تفوح منا رائحة الذهول .
حاول عاصم تنبيه رئيس قسم الموسيقى الي ان هذا ليس عدلا، فنحن حاضران والفتاتان غائبتان لكن البروف قال انه (موصّى) توصية شديدة ولابد له من الأحتفاظ بالآلات للبنات حتي يحضرن.قال لنا بأبتسامة مشرقة:
- عندنا آلات ناقصة شوية حاجات..كوبري..قوس..اوتار.. حاجات بسيطة كده.. نديكم ليها وامشو دنيا الموسيقى ( محل بشارع الجمهورية لبيع الأدوات الموسيقية) اشتروا الحاجات الناقصة وجيبوا فواتير بندفع ليكم القروش..
الأستاذ المرحوم اميقو الذي ظل صامتا طيلة ذلك العرض قال موجها حديثه لنا انا وعاصم:
- ماتشيلو اي حاجة ناقصة من هنا..في آلات جديدة وهي من حقكم.. شيلوها هي او ماتستلمو اي حاجة..ده كلام فاضي .
عملا بنصيحة الرجل رفضنا استلام الآلات القديمة الناقصة وغادرنا المكتب غاضبين تاركين البروف الذي لم يحرك ساكنا ولم يتزحزح عن موقفه المشين.عاصم ذاك لم يعد الي المعهد ابدا..ذهب الي بيته،واعاد الجلوس لأمتحان الشهادة السودانية وقبل في العام التالي بكلية الهندسة الالكترونية كما اخبرني في المرة الوحيدة التي زارني فيها في المعهد..لا اعلم ابدا اين هو الآن ولا مااذا كان قد بقي يمارس الموسيقى ام كرهها منذ ذلك الحين.
اما انا فلم اذهب الي اي مكان..بقيت منتظما بدراستي النظرية دون آلة، ولهذا كنت اغادر المعهد عند منتصف النهار اذ لم يمن ثمة موجب لبقائي بعد انتهاء المحاضرات النظرية والتي لم تكن تتعدي المحاضرتان في اليوم.
5
كانت الأستاذة زينب الحويرص تدرسنا قواعد الموسيقى،أظنها انتبهت لي لأنها وبلا سبب محدد سألتني عن تخصصي وأجبتها بالحقيقة اني بلا..استنكرت وطلبت التفاصيل ،وقادت حملة من اجل مشكلتي العجيبة..تحدثت الي رئيس القسم وتحدثت الي آخرين..قالت لي في تضامن مؤثر:
- اصلو في المعهد ده الماعندو ضهر بعملو معاه كده لكن اصلو مابنسكت
وانا برفقتها قالت لرئيس القسم:
- كان انا لقيت ليه زول يقبل يدرسو البيانو؟ وأجابها بأن لا مانع ان هي وجدت من يقبل
قالت لي انها ستتحدث الي الأستاذ ازهري،قالت انه (رجل كويس) وهي واثقة من انه سيتفهم الأمر..ثم طلبت مني بعد يوم واحد ان اذهب لمقابلة استاذي للبيانو لتحديد جدول المحاضرات العملية..
هرعت الي الأستاذ الذي اخبرني كم هو مزدحم بالطلاب لكنه مع هذا قبل ان يضمني الي طلابه تقديرا لمسعى الأستاذة زينب..ووضع لي جدولي وجلست الي اول درس عملي لي في معهد الموسيقى..درس على آلة البيانو الساحرة..الصندوق الأسود الغامض مستودع الأسرار..
بمساعدة من انسانة لم تكن تعرفني لكنها تألمت للظلم الذي حاق بي، تناولت محاضرتي الأولى علي البيانو.. محاضرتي الأولى والأخيرة...... ........... ............؟؟؟؟؟؟
نعم ياسادتي وياسيداتي..كانت محاضرتي الوحيدة، فقد كانت الأشهر الثلاث الأولى من بدء الدراسة قد انقضت (مارس 91 ـــ يونيو 91 ) وكان على الدراسة بالمعهد ان تتوقف لأجل لم يسم، لأن غالبية من طلاب المعهد رفضوا المشاركة القسرية في احتفال بذكرى ثورة الأنقاذ، وحاولوا كذلك منع الراغبين في المشاركة من فعل ذلك باسم المعهد.
لن اخوض في تفاصيل تلك الفترة فهي ليست شغلي..بالنسبة لي كان مسلسل الأحباط يمضي علي اكمل وجه، وكانت الدعوة لي للتخلي عن هذاالحلم الأخرق تقدم كل يوم..
6
لم يسم أجل استئناف الدراسة الا بعد اربعة اعوام..اظنه التعليق الأطول للدراسة في العالم، فمن المستحيل ان يكون قد سبقنا الي هذا احد ما في اي مكان..كانت الحجة غبية حتي بالنسبة لعقولنا الصغيرة( عدم وجود مقر) وكانت جامعات جديدة تنشأ، وتنوجد لها المقرات علي شارع النيل..
ذهبت مع الآخرين الي التيه..تيه دام لأربع سنوات درست خلالها المحاسبة بجامعة السودان..أي والله المحاسبة، وحصلت علي الدبلوم. ولما كان ترتيبي الثاني على دفعة من ثمانمائة دارس منحتني الجامعة تصعيدا مجانيا للبكالوريوس بكلية الدراسات التجارية..قبلته وسجلت نفسي لأكمال دراستي، وليس في نيتي ابدا أن احسب اموال الآخرين الداخلة والخارجة.
استؤنفت الدراسة وعدت مع من بقى بالبلاد لأري الي اين ستمضي هذه الحكاية ولأحظي بدرس ثان وثالث على البيانو العجيب.
فوجئت بأني- من جديد- قد عدت بلا تخصص، فقد هاجر استاذ ازهري الي امريكا على مااظن وتركني مرة اخري لعرائي الأزلي بقسم الموسيقى.قالوا لي ان ابدل التخصص فابيت فتركوني لحالي.
تحدث معي بعض الزملاء وأقنعوني بان اجرب الكمان، وبالفعل ذهبت الي القسم وطلبت ان يرسلوني الي الكمان ففعلوا، غير انهم لم يعطوني آلة، ولا حتي من تلك الآلات غير المكتملة. ارسلوني الي الأستاذ ابوزيد عبد الله ان لم اخطئ في الاسم الثاني..من جديد قال لي دكتور الفاتح الطاهر اننا نبعث بك الي احسن استاذ عندنا.. ولم يكن يكذب ابدا..ذهبت لمقابلة الأستاذ..كانت تلك المقابلة من اهم ماحدث لي بالمعهد منذ تاريخ انتسابي اليه..
7
كان الأستاذ ابوزيد ممن يبدو عليهم سمت الأساتذة، وهي صفة تستوقف المرء في معهد الموسيقى..استقبلني
ببشاشة اشعرتني بالدفء والأرتياح..قال لي
سنقتسم الزمن(ساعتان) احدثك عن نفسي نصف الوقت وتحدثني عن نفسك نصفه
الثاني، وبالطبع يتضمن الحديث - ضمن كل
مايرد على الخاطر- العلاقة بالفن عموما وبالموسيقى..
مدخل ممتاز لطالب في درسه الأول..ممتاز لطالب مثلي ظل يصدم ويندهش منذ بعثته لجنة القبول لذلك المكان الغريب..حدثني عن نفسه ذلك الرجل المرتب وعن التحاقه بالمعهد وعن دراسته بالأتحاد السوفيتي ، وعن علاقة خمسة وعشرون عاما بآلة الكمان.
حدثته بدوري عن طفولتي واحساسي بالموسيقى..تجاربي البسيطة في الغناء ورفض وتعنت اسرتي، وبالطبع رويت له كيف انتهيت طالبا لديه بعد رحلة لم اكن قادرا على استيعابها حتى ذلك الوقت.اهتم كثيرا بقصتي واخبرني انه على غرابة المسألة الا ان هذا يحدث بالمعهد..اخبرني ان الأحساس بالآلة امر اساسي ولا يمكن الأستهانة به، لكن في ظل ظروف كتلك التي كانت ماثلة( واظنها لم تزل) فعلى المرء ان يجرب كل الخيارات المتاحة..ثم استدعى مجدي العاقب الذي كان من الطلاب المتقدمين وقتها وكان يعد من افضل عازفي الكمان وقال لي انه( اي مجدي) لم يكن يرغب بالكمان حين جاء الي المعهد..
قال لي لو التزمت لي بما سأطلبه منك فأنا واثق من انك ستصبح مثله فدعنا نجرب..وتلقيت درسي الأول على آلة كمان تخص الطالبة( وقتها) اروي الربيع أعارتنيها بلطفها ورقتها الدائمين لما علمت بمشكلتي.ولما كانت قد حصلت علي آلة خاصة بها سمحت لي ان احتفظ بالآلة طوال فترة دراستي،على أن أسلمها للمعهد بعد ذاك.
مدخل ممتاز لطالب في درسه الأول..ممتاز لطالب مثلي ظل يصدم ويندهش منذ بعثته لجنة القبول لذلك المكان الغريب..حدثني عن نفسه ذلك الرجل المرتب وعن التحاقه بالمعهد وعن دراسته بالأتحاد السوفيتي ، وعن علاقة خمسة وعشرون عاما بآلة الكمان.
حدثته بدوري عن طفولتي واحساسي بالموسيقى..تجاربي البسيطة في الغناء ورفض وتعنت اسرتي، وبالطبع رويت له كيف انتهيت طالبا لديه بعد رحلة لم اكن قادرا على استيعابها حتى ذلك الوقت.اهتم كثيرا بقصتي واخبرني انه على غرابة المسألة الا ان هذا يحدث بالمعهد..اخبرني ان الأحساس بالآلة امر اساسي ولا يمكن الأستهانة به، لكن في ظل ظروف كتلك التي كانت ماثلة( واظنها لم تزل) فعلى المرء ان يجرب كل الخيارات المتاحة..ثم استدعى مجدي العاقب الذي كان من الطلاب المتقدمين وقتها وكان يعد من افضل عازفي الكمان وقال لي انه( اي مجدي) لم يكن يرغب بالكمان حين جاء الي المعهد..
قال لي لو التزمت لي بما سأطلبه منك فأنا واثق من انك ستصبح مثله فدعنا نجرب..وتلقيت درسي الأول على آلة كمان تخص الطالبة( وقتها) اروي الربيع أعارتنيها بلطفها ورقتها الدائمين لما علمت بمشكلتي.ولما كانت قد حصلت علي آلة خاصة بها سمحت لي ان احتفظ بالآلة طوال فترة دراستي،على أن أسلمها للمعهد بعد ذاك.
كنت آخذ الآلة الي البيت..اضعها امامي بنية ان سأبدأ التمرين..اظل احدق
بها لساعات وبي رغبة جامحة بالبكاء..حدثت استاذي
مرة فقال لي بحسم:
- عد الي رئيس القسم واخبره انك لن تدرس الكمان، وانك تريد ان تدرس الصوت والبيانو، وأنه لا شأن لك بأي مشاكل تخص القسم..قل هذا وغادر المكتب..
ذهبت وقلت قولتي وغادرت المكتب..وغادرت درس الكمان الي الأبد، وغادر الأستاذ ابوزيد المعهد بعدها بقليل حتي هذه الكتابة.
- عد الي رئيس القسم واخبره انك لن تدرس الكمان، وانك تريد ان تدرس الصوت والبيانو، وأنه لا شأن لك بأي مشاكل تخص القسم..قل هذا وغادر المكتب..
ذهبت وقلت قولتي وغادرت المكتب..وغادرت درس الكمان الي الأبد، وغادر الأستاذ ابوزيد المعهد بعدها بقليل حتي هذه الكتابة.
8
قرروا اني سأدرس البيانو..كانت استاذة قديمة قد عادت للمعهد تدعى وداد عبد الحميد فبعثوني اليها..وضعت لي جدول محاضرات لاحظت منذ الأسبوع الأول مشكلتها في الألتزام به..كانت تستخدم التاكسي في حركتها من والي المعهد وكان سائقها يجئ ليقلها بالضبط عند موعد درسي، فتعتذر لي بأن التاكسي قد جاء، وانها مضطرة للذهاب لكنها ستعوضني درسي الضائع.. ولم تكن تفعل ابدا . وهكذا بقيت دروسي كلها ضائعة بسبب ذلك التضارب الغريب مع موعد التاكسي..لم تكن تعلم انني قد صممت جدولا بكل محاضراتي للسنة، باليوم والساعة، وانني كنت احسب لها الحضور والغياب – الغياب فقط في الواقع- بدقة متناهية..حدثت رئيس القسم الذي كان قد اصبح الأستاذ الجليل بشير صالح ووعدني بأن يناقشها لتعديل التوقيت لكن ذلك لم يتم.
مع نهاية العام واقتراب الامتحان تدربت على قطعة صغيرة جدا علي البيانو..صغيرة الي حد مخجل اقترحها علي وساعدني علي عزفها صديقي وليد ابو القاسم..طلبت مني الأستاذة وداد الّا اجلس للأمتحان العملي، وأن اؤجل ذلك لأمتحانات البديل(لأنك ماعملت اي حاجة) هكذا قالت لي والله..ابيت بصرامة ووضوح وقلت اني سأمتحن بقطعتي الصغيرة..الصغيرة المخجلة..ذهبت تشكوني الي قسم الموسيقى فوجدت اني قد سبقتها بالشكوى..سمحوا لي بالجلوس للأمتحان، وجلست الي البيانو في حضرة اللجنة، وبدأت عزف قطعتي الصغيرة..لن انسى أبدا كيف ان الأستاذة وثبت من مقعدها وقبضت علي خنصري فيما كان يهبط علي مفتاح ما، وخاطبت لجنة الأساتذة بينما يدها تقبض علي الدليل( أصبعي الصغير) :
- ده صاح؟ ده تكنيك ده؟
واذكر جيدا ان الأستاذ المرحوم اميقو صرخ بها:
- انت علّمتيه تكنيك شان تجي تسأليه منو هنا..لو سمحت ماتوتري الطالب اثناء الأمتحان.
كنت قد توترت وانتهى الأمر، صارت يدي ترتجف ولم اعد اقوي علي وضعها علي البيانو..سمحوا لي بمغادرة القاعة لبعض الوقت للاسترخاء على ان اعود واعيد عزف مقطوعتي..عدت بعد دقائق وكوب قهوة وجلست الي البيانو وعزفت قطعتي الصغيرة..المخجلة..ومنحوني تقديرا اظنه كان جيدا ان لم يكن جدا..علي قطعتي الصغيرة التي تعلمتها وحدي وعزفتها بتكنيك ماارسل الله به من محتال.وانتقلت للسنة الثانية..
كانت الأستاذة الفاضلة قد قالت لهم في القسم عن غيابي الدائم عن محاضراتها، وكنت قد اخذت دفتر محاضراتي واريتهم علامات غيابها هي وبذات الحجة دائما وعلى نفس الوعد دائما..
بقيت تلك الأستاذة غاضبة علىّ كأني انا من كذب وقصّر..توعدتني قائلة:
- انت عامل فيها بتاع اتحادات وبتاع مشاكل..انا اصلو مابخليك.
ولم اكن بتاع اتحادات ولا بتاع مشاكل ،ولم يكن بالمعهد وقتها أيّ اتحاد، ولا حتي حين تخرجي فيه، ولا حتي هذه اللحظة علي مااظن..قال لي بعض الزملاء القدامى انها قريبة الرئيس نميري..واظنها هي من كانت اقرب للأتحادات تبع قريبها الهالك ..لم تستطع ( الا تخليني) ابدا بل ( خلّت المعهد) ليس بعدها بوقت طويل ولأسباب لم اعلمها ولم اكترث..
9
في السنة الثانية واصلت كطالب بيانو..كطالب بيانو مازال سئ الحظ فيما يخص الأستاذ..غاب عن ذاكرتي الكثير من تفاصيل سنتي الثانية..أذكر انهم أرسلوني لوقت قصير جدا للأستاذة ليلى بسطاوي..كنت مستبشرا بها فهي في تقديري انسانة ممتازة لكن جلوسي اليها سرعان ماانقطع لأسباب لم أعد أذكرها الآن، حتي انني لا اذكر ما اذا كنت قد تعلمت معها شيئا ام لا..ربما تكون قد غادرت المعهد، فقد كان ذلك رائجا خاصة عند اساتذتي انا بالذات..وربما يكونون قد اخذوني منها تخفيفا عليها..المهم اذكر فترة اقصر ارسلوني فيها للأستاذة مريم عثمان، ونوبة اخرى جد قصيرة للأستاذة حواء المنصوري..اذكر انني امتحنت في قطعة صغيرة لباخ..اكبر قليلا من قطعة السنة الأولي، مع معزوفة ثانية لا اذكرها الآن..معزوفة صغيرة بالفعل..اجازت اللجنة امتحاني ومنحتني درجة واوصت بنقلي للسنة الثالثة..
في السنة الثالثة لم اعد طالب بيانو ابدا اذ كان كيلي قد طفح مع الأستاذ الدرديري، الذي كان يبادرني كلما جئت حاملا اوراقي لساعة البيانو:
- ابو السيوف..معليش انا حا أأجّل ليك محاضرتك دي ونعوضا فيما بعد..ولم يكن ثمة ما بعد أبدا ،حتي انني ذهبت الي قسم الموسيقى وطلبت اعفائي كلية من البيانو اللعين، وكبديل قررت ان سآخذ العود..وهكذا صرت دارس عود للثلاث سنوات المتبقية من عمر دراستي.
10
كان البيانو لعنة لعناء في المعهد..الي جانب مشاكل قلة الأساتذة كان ثمة مشكلة من نوع غريب ومعقد..سبعة عشر طالبا يتشاركون آلة بيانو واحدة، قديمة، متهالكة وغير مدوزنة جيدا معظم الوقت..اول نصيحة يسديكها استاذ البيانو بكامل الثقة هي ان تتدرب على الأقل لخمس ساعات في اليوم..لم يكن يسمح للطلاب بالتواجد بالكلية بعد نهاية يوم العمل العادي، اي في الثالثة او الرابعة على ابعد تقدير.. فأذا ركبت معجزتك ووصلت مبنى الكلية بالمنطقة الصناعية الخرطوم عند السابعة صباحا، يكون لديك تسع ساعات..ست منها لمحاضرلتك العامة في الفصل..والباقي للمحاضرات العملية ووقت التمارين والمكتبة والفروض الأكاديمية..سبعة عشر دارس عليهم ان يتدربوا ( بشكل فردي بالطبع) خمس ساعات علي الأقل في اليوم..ولم يكن اليوم في تلك الحقبة قد وصل الي خمس وثمانين ساعة..كان فقط اربع وعشرين ساعة تسمح الأدارة بتسع ساعات منها لأنجاز الأعمال، وتطردنا بالقوة بعد ذلك مستخدمة حرسها الشداد..
لم استطيع فهم تلك المعادلة..كتبت مرة في جريدتي الحائطية ( تيريولا) عن انني سئمت اقتسام ساعات التمرين كما يتقاسم( الفقرا) نبقتهم اللعينة..هددت بأني سأبقي بالمعهد بعد الرابعة ولن انهض عن مقعد البيانو مالم تكن به سبعة قنافذ حية..كتبت هذا بالحرف واستدعيت للتحقيق بشأنه..ولم يجدني وعيدي نفعا فقد قدروا علي وضع القنافذ الحية تحت مقعدي..ولم تكن سبعا فقط.
11
مالنا والبيانو..لقد صرت طالب عود..لم يكن بالمعهد ولا عود واحد..لكن هذا لم يعد امرا ينجح معي..تحصنت كفاية لهكذا امور..دبرت عودي وقلت لهم حي على الأستاذ.
كان الأستاذ الماحي سليمان موجودا لكنه لم يكن يدرس الآلة..كان يدرس التاريخ على ما اذكر والتذوق والتحليل..ربما لأنه كان قد اصبح استاذا مشاركا بالجامعة.. لا اعرف الكثير عن طبيعة وحجم مهام الأساتذة المشاركون ، لكني طلبت من نزار الماحي الذي كان زميلنا وان لم نكن اصدقاء، ان يحدث لي والده ليدرسني العود..كنت خلال فترة اغلاق المعهد قد تعلمت العزف علي العود بمساعدة صديقي وزميلي واستاذي و( معهدي في الواقع) وليد ابو القاسم ،جاءني نزار بنبأ قبول والده..اخذت عودي وذهبت اليه..كان يجلس ساهما وكسولا..قال لي ان اعزف قليلا ففعلت..عزفت شيئا من اغنية للكاشف كانت تعجبني تلك الأيام ثم انتهى اعجابي بها بعد ذلك بلا سبب..قال لي:
- انت ود فنان..عزفك فيه احساس جميل
ثم اسدى الى النصيحة الوحيدة في علاقتنا كطالب واستاذ:
- دايما اعزف بريشة خفيفة..ريشة ناعمة
وهي النصيحة التي سأكتشف فيما بعد جدا انها كانت الأكثر ضررا التي اسديت الي في حياتي الموسيقية..
لم يزد مادار بيننا انا واستاذ الماحي عما ذكرت ..الي اليوم.
لم اعد ابدا اليه....لا اذكر الآن ماالذي حدث بالتفصيل لكن استاذا آخر للعود كان قد جاء الي المعهد وارسلوني اليه..ماأكثر وأفدح ما ارسلوني الي اساتذة.
12
كانت رحلتي مع بروفيسور السباعي فريدة من نوعها..اكتب عنها بلا ادنى رغبة في اساءة الأدب..علي العكس، اكتب بكثير من المحبة اذ اتذكر تلك الأوقات..غير انها الحقيقة..وكم وددت لو كان لدي غيرها..اما ان ازورها فماالذي سيجعلني افعل ذلك؟وماالداعي لكل ذلك الجلوس وكل تلك الكتابة؟؟
حين سمعت اسم استاذي الجديد لأول مرة اصابني الفزع..بروفيسور...وانظر دلالة الأسم( السباعي)..كان الرجل عميدا للمعهد في فترة من تاريخه..قلت لنفسي انني هالك لا محالة..بدأت الآلة في السنة الثالثة، ولم اتلق اية دروس ولا تدريبات تذكر ( باستثناء تدريباتي الشخصية خلال فترة تعليق الدراسة) ..سيجدني الرجل مخيبا لأمله، وسيرهقني من امري عسرا..
اول مرة رايت استاذي كان يحمل عودا قديما..عنق العود مكسور ولذلك يشده بوتر من منطقة الكوبري، حيث تثبت الأوتار عادة، لكنه- اي الوتر- يمر من ظهر العود عبر قصعته ليصل الي منطقة المفاتيح التي تدوزن بها الآلة، حيث يلتف هناك بأحكام ليثبت( الرقبة المفقوهة)..اذن كان ذلك العود بخيط خارجي بدا لي غريبا، كما انه دون شك يجعل الأمساك بالآلة اكثر عسرا..وهو قبل كل ذلك يوحي بأمور ليست طيبة..
كان وجه العود مشققا بائن الشقوق، ولذلك حين عزف عليه البروف ذلك اليوم سمعت اصواتا موسيقية تداخلت معها زنات مريعة، وطقطقات خشب انتجت مزيجا غرائبيا منفرا حتى بالنسبة لأذني غير المدربة..وقد بقيت مضطرا لتحمل صوت ذلك العود طيلة ثلاث سنوات..
رجوت الأستاذ بعد ان توثقت صلتي به – وهو رجل طيب القلب الي حد بعيد- ان يحضر عودا آخر للمحاضرات ان كان لديه..واجابني بان لديه عود نادر سعره مئات الدولارات لكن لا يمكن ان يحضره الي الكلية( ديل ما بستاهلو..) كما برر لي.
لم يكن لدى البروف برنامج محدد لي،ولم يكن يكترث ابدا للتكنيك الذي ينبغي ان اعزف به..منتهى اربه كان ان اعزف النوتة بسلام، وهو ماظللت افعله بلا كبير جهد..وكان يرتجل لي التدريبات، ويجعلني اعزف مقطوعات من تأليفه كان واضحا انها لم تكتب للعود ولا لآلة شبيهة حتى..ولم تكن تعجبني.
اما اكثر ماكان يشق علىّ ويملأ ايامي بالمرارة، فهو اصراره على ان نؤدي المحاضرة في الهواء الطلق امام غرفة المكتب، حيث الممر الرئيسئ لكل قسم الموسيقى، وقسم الدراما، والمكتبتين المقروءة والصوتية، مضافا الي ذلك مسجد الكلية ودورات مياهها..وهكذا كنا لا نكاد نعزف نوتة واحدة حتي نقطع ذلك رافعين اكفنا بالتحية على المارة الحريصين علي افشاء السلام..ومشتبكين في محادثات قصيرة مع البعض، قبل ان نعود لنعزف النوتة التالية..كم عانيت من( السلام ) تلك السنوات، وكم بكيت من احساس بأني صغير وتافه ومهان.
كان البروف يضمر غضبا عارما لأدارة الكلية التي لا تقدره حق قدره، بدليل انها تجعله يجلس في غرفة مساحتها تسعة امتار(تلاتة في تلاتة)، وهو الرجل الذي كان عميدا للمعهد حين كان معظمهم نكرات (على حد تعبيره).
وربما لذات السبب ( انه كان عميدا يوما ما ) واستخدم- لاشك- سلطاته فقطع بعثات البعض، وانفذ البعض، لم يكن محبوبا من اغلب اساتذة القسم او من ادارييه على وجه التحديد..ورغم انه من المفترض ان هذا لم يكن يعنيني ولا شأن لي به، الا انني كنت واقعا- لسوء حظي- بين الطرفين و تأذّيت بسببه كثيرا..
كان ثمة محاضرة في جدولي العملي مع البروف السباعي للأستماع والتحليل، لكننا لم نسمع اى شئ وبالتالي لم نحلل بذات القدر، ومع ذلك كان يحرص على اثبات تلك الساعات في جدول الأجور..
لم يزد ماتعلمته من الدكتور السباعي في الموسيقي الشرقية عن مقامين..بل ثلاث.. كنت اعرف- كما يعرف كثير من الناس- اثنين منهما معرفة جيدة..ولم اسمع منه عزفا اشتهيت ان اقلده او التقط منه ذبذبة واحدة..
بقيت اقضي وقتي كيفما اتفق..واحاول تحسين عزفي بما اوتيت من حيلة..لم يكن حتي ثمة كتاب عملي لتدريبات العود بالمكتبة..كل الكتب كانت معارة للأبد لأساتذة بالكلية, ولهذا لم اعبأ برأى البروفيسور الذي كان بالطبع مشرفي في السنة الخامسة.. سنة التخرج..نحيت برنامجه الذي وضعه لي جانبا، وظللت اعمل طيلة العام على برنامجي الخاص جدا..وبقدر يسير من التكتم..كنت فقط اتحاشى مايمكن ان يهدر وقتي ويزعجني تلك الأيام..
13
تخرجت من معهد الموسيقى..اديت فروضي الأخيرة في اكتوبر 2000وغادرت المعهد الي الأبد..لم اعد الا مرات نادرة جدا كعودتي بعد اداء الخدمة الألزامية لأستخراج شهادتي. وحتي الآن لا اجد رغبة في العودة الي هناك لبدء العمل على الماجستير رغم رغبتي في مواصلة الدراسة.
كتبت كل هذه الأهوال لا رغبة في التشفي او الثأر، فالأمر لم يعد يهمني منذ وقت طويل..ولم اقصد ابدا التقليل من شأن اساتذة جلست اليهم علي مقعد التلميذ وتعلمت منهم..كنت دائما امتعض من طلاب الفنون الذين ماان يعرفوا قليلا حتي يتعالوا علي الأساتذة ويتهمونهم بالتكلس وبعدم المعرفة..اتفهم لماذا يحدث هذا مع طلاب الفنون لكني لم اره صحيحا ابدا ولم اتفق معه.
كتبت لأسباب اخرى في الواقع..في بالي طلاب ابرياء يرسلونهم مازالوا الي تلك الكلية فيقضون سنواتهم- اهم سنوات في عمر فنان- يلعبون البلياردو، ويعبثون بهواتفهم النقالة، لا يدرون للأسف انهم سيغادرون الكلية الي عالم بالغ الرداءة والقسوة..عالم تترنح فيه ان كنت مدعوما بمعرفة جيدة وبخلفية فلسفية ورؤية واضحة لما تريد ان تقول فمابالك ان خرجت له عاريا من كل ذلك؟
خمس سنوات في المعهد- متناسين فترة التوقف- كانت محاضرات الأوركسترا والكورال توضع في الجدول كل عام لكنها لا تقوم ابدا..خمس سنوات لم يتح لنا المعهد الجلوس بآلاتنا واصواتنا لنشترك في تنفيذ عمل موسيقي كتدريب عملي علي ماندرس..خمس سنوات لم يكن ممكنا ان نستمع للمواد المكدسة في المكتبة الصوتية لأن المكتبة الصوتية ظلت خرساء.. لا تملك الاجهزة التي تلعب اسطواناتها، وهكذا كان علينا ان نؤمن بمايقال لنا عن روائع الموسيقى الكلاسيكية( اساس منهج المعهد) متكئين علي حسن ظننا وفرط الثقة.
تحدثت مرة مع تشكيلي قديم كان استاذا بكلية الفنون فقال لي انه يعتقد ان نشوء المعهد ككيان مستقل يتبع لمصلحة الثقافة اول امره، اورثه تلك الاهلية الواضحة وغياب التقاليد الأكاديمية..وجدت وجهة نظره جديرة بالتقدير.
ثلاث سنوات يدرس فيها طلاب الموسيقى مادة تسمى الموسيقى السودانية، والمادة لا تتعرض للموسيقى السودانية من قريب او بعيد..مجرد حكايات عن الحقيبة ووجهاء امدرمان..حكايات تونس الناس بها للخمسين سنة الماضية..
كتبت قصتي الذاتية ومعاناتي وملاحظاتي عسى ان تثير بعض التساؤلات، او تصبح مادة لنقاشات قد تصبح قطرة في بحر الجهد المطلوب لتستقيم الأمور. ثمة اشخاص عديدون في تلك الكلية يهمهم امرها..لماذا لا يتنادون لفعل تصحيحي..يتم متى شاءت الظروف والأمكانات، لكن فقط لنقل اننا نزمع الأصلاح واننا عرفنا و حددنا المشاكل واتفقنا على الحلول ورتبنا كل مانحتاج ترتيبه.
سيف
عثمان
فبراير
2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق