التنمية
المتوازنة .. مطلوبات تجسير هوة الهامش والمركز
يمثل التفاوت الواسع فى التنمية الاقتصادية
والاجتماعية بين مختلف أقاليم السودان ، أحد آهم الاسباب الريئسية فى تفجير الحرب
الاهلية فى الجنوب قبل أتفاق نيفاشا 2005م ، ونشوء نزاعات دارفور وجنوب كردفان
والنيل الأزرق والشرق وغيرها ، وذلك دون التقليل من الاسباب والعوامل
الأخرى السياسية والثقافية .. الخ ، غير أنه ، وبقض النظر عن أنفصال الجنوب من
الشمال يوليو 2011م ، وكل المطالبات الاخرى بمنح حكماً ذاتياً اقليمياً ، هل يرجع
مرد ذلك الصراع غير الواقعى إلى أسباب وعوامل أقتصادية وأجتماعية ظلت تشكل جوهر
الصراع السياسى والاجتماعى طوال فترة الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية وحتي
الان ؟ وام يرجع إلى نزعة وسيطرة وهيمنة في
الثقافة العربية الاسلامية ؟ ام إلى سيطرة فئات اجتماعية وسياسية محددة اساساً
ولكن لها أمتداداتها وسط المجموعات الوطنية الأخرى التى تمثلت فى القوى المهيمنة
التقليدية فى السنوات الاولى لفترة ما بعد الاستقلال ، وفي الفئات الطفيلية
الأسلاموية خلال العقود الاخيرة ؟ الواقع ان الصراع الجارى الأن لا يمكن اعتباره
صراعاً حول الهوية ، بل هو بشكل رئيسي أنعكاس جلى لازمة الوطن الشاملة ورد فعل
مركز لكل احباطات فترة ما بعد الاستقلال ، ويمثل انقطاعاً صارماً مع تراث الحركة
الوطنية وكما يرجع بشكل رئيسي إلى سيطرة الفئات الطفيلية الاسلاموية على السلطة
والثروة طوال السنوات السابقة ، وهذه الفئات بحكم طبيعتها الفكرية والاجتماعية
المعادية للديمقراطية والرآي الآخر ، هى الاكثر تخلفاً وشوفينية فى نظرتها لمشكلة
الحرب الاهلية السابقة فى الجنوب وحقائق التنوع الاثنى والدينى وقضايا التنمية
بشكل عام ، ولهذا السبب بالتحديد أدت سياساتها العملية إلى ادخال البلاد فى أزمة
وطنية شاملة وتفجر قضية الهوية بشكل واسع وجاد مما مهد المسرح لدعوات تقرير المصير
والحكم الذاتى وتفكيك السودان الموحد على أسس عرقية ودينية .
اولاً : جذور التنمية
غير المتوازنة :
صحيح ان التتنمية الأقتصادية والاجتماعية التى
سار عليها السودان خلال الخمسة والخمسون عاماً الماضية لا تختلف عن الاطار العام
للتطور الذى شهدته البلدان العربية والافريقية الأخرى بشكل خاص والبلدان النامية بشكل عام ، ولكن
للسودان خصوصيتة وظروفه الخاصة .
عند اعلان الاستقلال فى مطلع عام 1956م كانت
المساحة المزروعة لا تتجاوز 5% من جملة المساحة القابلة للزراعة ، وفى الوقت
الراهن بعد مرور خمسة وخمسون عاماً على اعلان الاستقلال نجد ان السودان يعيش
مهددات انهيار أقتصادى ماثل ، فقد تراجع الانتاج الزراعى ، مضافاً اليه الحرب
الدائرة الأن فى مناطق الزراعة التقليدية ، دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان ،
وفشل الانتاج الزراعى فى تحقيق الاكتفاء الذاتى من المواد الغذائية ناهيك عن تحقيق
فائض للتصدير ، وهناك ملاين السكان يواجهون المجاعة وجهاً لوجه ، فبدلاً من تحقيق
المنعة والقوة تتدهور الأوضاع وتفشل الحكومات الوطنية المتعاقبة فى تحقيق الآمال
والاهداف التى فجرها اعلان الاستقلال 1956م ، ومن هنا تنبع آهمية فهم عملية
التنمية والتخلف الجارية فى السودان رغم الإمكانيات الأقتصادية والبشرية والفنية
الواسعة ، مع التركيزعلى ديناميات التطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى الدولة
الوطنية ما بعد الكولينالية ، ان التفاوت فى التنمية الموجود في البلاد له
تأثيراته السياسية والاجتماعية ، ومن المؤكد ان النشاط السياسى للافراد يعكس
مصالحهم الاقتصادية المتفاوته .
ففى وسط سكان الريف هناك اختلافات كبيرة
فى طريقة الحياة الاقتصادية وطريقة تنظيمها هناك تمايز واضح بين الذين يعتمدون فى
حياتهم على الزراعة المستقرة والذين يعتمدون على الرعى ، ففى ضفاف النيل وفى شمال
البلاد وجنوب كردفان وبعض مناطق السهول الطينية الوسطى يعتمد السكان بشكل رئيسى
على الزراعة المستقره ، وفى المناطق الاخرى تقوم حياة السكان على الرعى كما هو
الحال عند قبائل البقارة فى جنوب كردفان ودارفور والكبابيش فى شمال كردفان ،
ورفاعة الهوى فى الجزيرة والشكرية فى شرق نهر النيل حتى الحدود المصرية ، وهناك
التمايز بين الذين ينتجون بهدف الاكتفاء الذاتى ، والذين يرتبطون بالسوق بدرجات
متفاوتة ، على العموم فاقتصاديات السوق تشمل معظم المناطق النيلية في السودان
الشمالى ، وفيما يتعلق بالزراعة المستقرة هناك تمايز آخر يرتبط بأدوات الانتاج
يستخدمها المزارعون ، وفى هذا الخصوص ، فأن الاحصائيات الحكومية تقسم الاقتصاد
السودانى إلى قطاعين ، هما القطاع الحديث ، والقطاع التقليدى ، القطاع الاول يشمل
الاقتصاد الحضرى الذى يستخدم ادوات الانتاج الحديثة مثل التراكترات ، والطلمبات ،
والرى الانسيابى ، وفى داخل القطاع التقليدى نفسه هناك تمايزات عديدة ترتبط بدرجة
الاعتماد على ادوات الانتاج الحديثة ، وهناك تمايزات آخرى ترتبط بطريقة تنظيم
الانتاج فى مناطق الزراعة المستقرة ، ففى الحالات التى تكون فيها الآراضى مملوكة
ملكية جماعية ،
وفى
المناطق التى تتوفر فيها الاراضى بمساحات واسعة يحق لكل فرد الحصول على قطعة ارض
كافية لزراعتها ، فى هذه الحالة تقدم الحاجة للعمل
المأجور ، اما فى المناطق التى تعانى من ضيق الاراضى خاصة فى المناطق التى تستخدم
الادوات الزراعية الحديثة ، فأن اصحاب المشاريع يعتمدون على العمل الماجور بشكل
رئيسى ، وفى حالات تتوزع أشكال الزراعة لتشمل الحيازات الصغيرة والمزارع الكبيرة
التى يديرها أصحابها والمشاريع التى تنقسم الى حواشات متعددة والمشاريع نفسها
تختلف فيما بينها ففى بعضها يقوم المزارعون بدفع إيجار ثابت مقابل الأرض والمياة ،
وفى بعضها الآخر يوزع الانتاج بين المزارعين وملاك الاراضى ، وعندما يكون أصحاب
الارض من رجال الدين أو زعماء القبائل البارزين فأن العلاقة بين الطرفين تتحول الى
نوع من العلاقات الاقطاعية ، هذه الاختلافات والتمايزات التى تؤثر بالضرورة على
شكل وطبيعة الانتاج فى المناطق الريفية المختلفة هى السبب فى تعقيد وتداخل التركيب
الاقتصادى والاجتماعى فى السودان ، وهناك مجموعات متعددة ومتنوعة داخل عملية
الانتاج ، اذا اخذنا قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات بجانب القطاع الزراعي فان
الصورة العامة تصبح أكثر تعقيداً وتشابكاً .
فان
الدولة الوطنية ما بعد الكولنيالية منذ عام 1956م ظلت تحافظ على التركيب الاقتصادى
والاجتماعى الموروث من سلطات الحكم الثنائى ، بل ان سياساتها قد ادت الى تعميق
واقع التفاوت الاجتماعى والاقليمى ، وفى فترة ما قبل آواخر الستينيات كان السودان يخضع لحدود بعيدة لنفوذ المجموعات المستفيدة من التركيب
الاقتصادى والاجتماعى السائد ، اما الان فقد ضعف نفوذ هذه المجموعات وأصبح جهاز
الدولة مستقلاً عنها لحدود كبيرة ، ولكنه سرعان ما تراجع ليقع تحت النفوذ المتزايد
لرأس المال الطفيلى وعصابات السوق الاسود ، كان التركيب الاقتصادى للبلاد فى نهاية
الحكم الثنائى يعكس تفاوت كبير فى مستوى التطور الاجتماعى والأقتصادى بين أقاليم
البلاد المختلفة ، اذ كانت ادراة الحكم الثنائى طوال سنوات حكمها تركز جهودها التنموية
فى المنطقة شمال الخرطوم ، مناطق النيلين الازرق والابيض ووسط كردفان وجنوب مديرية
كسلا ، حيث تتركز معظم المشاريع الكبيرة (الخاصة والحكومية) بالاضافة للصناعات
وخدمات الصحة والتعليم الواسعة نسبياً بالمقارنة مع مناطق البلاد الاخري ، ولذلك
ظهرت التنمية غير المتوازنة بين مناطق البلاد المختلفة وداخل كل أقليم فى نفس
الوقت ، كما يحدث عدم التوازن الكبير فى التنمية فى توزيع الاستثمارات فى
الأقاليم المختلفة ، هناك تفاوت فى مستوى
المعيشة وفى نصيب الفرد من الدخل القومى ، فدخل الفرد فى النيل الازرق كان يعادل
ثلاث اضعاف دخل الفرد فى المناطق الجنوبية سابقاً ، ومن هنا جأت ظاهرة الهجرات
الداخلية من المناطق الاقل تطوراً نحو المناطق الأكثر تطوراً ، فتعداد السكان لسنة
55 - 56 يوضح لنا ان ما لايقل عن 10% من سكان الولايات الجنوبية وحوالى 15% من سكان الولايات الغربية يعيشون فى
ولايات اخرى ، المهم ان هذا التفاوت والاختلال فى مستوى التنمية الاقتصادية
والاجتماعية كانت له تأثيراته الساسية الهامة ، فتدنى فرص التعليم فى المناطق
الاكثر تخلفاً حرم ابناءوها من فرص الاستخدام فى الوظائف الحكومية المختلفة خاصة
الوظائف العليا سواء كان ذلك فى مستوى السودان ككل أو فى مستوى تلك المناطق نفسها
، فمعظم الادارين والتجار كانوا من المناطق النيلية والشمالية بالاضافة الى
الاداريين البريطانين والمصرين والشركات الاجنبية ، ومن هنا كان جهاز الدولة عشية
الاستقلال يتكون بشكل رئيسى من ابناء المناطق الشمالية والنيلية ، وكانت معظم
خدماته تتركز فى تلك المناطق اما المناطق الاخرى ، خاصة الولايات الغربية
والجنوبية والشرقية فقد حرمت من خدمات الدولة ، ومن فرص الاستخدام فى الوظائف
الحكومية فى نفس الوقت ، وكان أتصالها بالدولة ينحصر فقط فى اجهزة الادارة العامة
وتحصيل الضرائب ، ان النتائج السياسية التى افرزتها أوضاع التنمية الغير متوازنة
فى مستوى التطور الاقتصادى بين أقاليم البلاد المختلفة تختلف من منطقة الى اخرى ،
وذلك حسب تفاعل العوامل السياسية والاجتماعية والتاريخية مع ظروف التخلف والحرمان
الاقتصادى ، ففى المناطق الجنوبية مثلاً برزت الدعوة الاولى للحكم الذاتى أو
الفيدرالى وفى الاخيرة الانفصال ، وذلك بحكم ظروف التماييز الثقافى والتاريخى
بالمقارنة مع الاقاليم الشمالية ، بالاضافة الى دور السياسات البريطانية ، وفى
المناطق الاخرى اتخذت الحركات الاقليمية أشكال اخرى تركزت اولاً على الاحتجاج على
تجاهل الحكومات المتعاقبة لتلك المناطق وعدم تطويرها أقتصادياً واجتماعياً
وثقافياً ، ان ظاهرة التنمية الغير متوازنة بين اقاليم البلاد المختلفة هى فى
الواقع نتاج لنمط التنمية الرأسمالية التبعى وظاهرة ملازمة له يعاد انتاجها
بأستمرار بأشكال مختلفة ، وبالتدرج تنامى بعد الاستقلال نظام رعوى جديد لا يعتمد
على المنظومة الرعوية بنمطها الهرمي الترابطى الذى يحدد نموذجاً للتمايز بشكل نمطى
يصعب تبديله الا فى حدود ضيقة مرسومة سلفاً والتى ارتكزت على حجم قوتها الاقتصادية
المتزايدة وعلى ملكيتها أو حيازتها الواسعة من الاراضى ، وقد استغلت هذه المجموعة
مكانتها الاجتماعية كاعيان ومرابى مدن وشيوخ قبائل وزعماء عائلات نافذة فى المناطق
الريفية ، وذلك لأن القرارات التنظيمية اللاحقة سجلت الاراضى بأسمائها واسماء
عائلاتها ، وعلى قاعدة هذه الملكيات العقارية انخرطت تلك القوة المهيمنة فى مؤسسات
الدولة ، الامر الذي اسس لمرتكزات اساسية للهيمنة السياسية والاجتماعية ، وهذه
المرتكزات : هى قوة النفوذ العائلى وحجم الملكية أوالحيازة العقارية ، والموقع
الوظيفى أو الادارى ، وكثيراً ما كانت هذه المرتكزات تؤدى الدور الناظم لعملية انتاج
واعادة انتاج النخبة ، ترجع الجذور التاريخية للقوة المهيمنة الى فترة الفونج التى
شهدت وجوداً مكثفاً للطرق الصوفية فقد استطاعت بعض الطرق الصوفية الاستحواذ على
قوة اقتصادية مقدرة غير تقربها من السلطة اضافة الى ما امتلكته من قوة روحية /
دينية وقد استفادة هذه الطرق على رأسها الطريقة الختمية من الدعم المستمر ابان
الحكم التركى المصرى .
انتهى
الحكم التركى على يد الدولة المهدية التى تبادلت العداء مع الطريقة الختمية ، على
خلفية هذا الواقع اتت القوى الاستعمارية الى المنطقة لدعم هذه القوى واعادة
انتاجها مرة اخرى ، وقد استفادت بريطانيا من ذلك التاريخ العدائى ، فقامت مع
الطائفيتين بلعبة توازن القوة التى اعتمدت فيها على تقديم السيدين ، واعتماداً على
هذين السيدين تولت الاحزاب السساسية الكبرى ( حزب الامة والوطنى اتحادى ) حركة التحرر الوطنى وورثت التركة الاستعمارية ،
واستغلت تلك الاحزاب التقاليد والانظمة الرعوية السائدة لتنمية مصالحها السياسية
والاقتصادية حتى ان المرشح فى الدوائر الانتخابية يصوت له فى ( ما أصبح يعرف
بالدوائر المغلقة ) من دون ان يكلف نفسه مشقة زيارة دائرته أو عرض برنامجه على
الناخبين ، وعلى الصعيد الاخر ساهم الاستعمار فى انتاج بنى اجتماعية جديدة ونمط
جديد ليس فقط فى علائق الانتاج بل فى العلائق بين شرائح المجتمع المختلفة فقد ظهرت
الطبقة البرجوازية والطبقة المتعلمة ( الافندية ) لتعبر عن هذا النمط الجديد ،
ولكن تم ذلك وفقا لمقتضيات الاستعمار واحتياجاته الاستهلاكية ، وبعد الاستقلال نمت
هذه الطبقات والطبقات الحليفة لها واستحوزت على السلطة السياسية واحتكرت الموارد
المتاحة ، وكذلك استطاعت النخب المسيطرة دمج البنى المتخلفة وتكييفها بحسب مقتضيات
مصالحها وبما يتناسب مع شروط اعادة الهيمنة ، الامر الذى اتاح عجزاً بيناً في
البنية الداخلية للمجتمع السوداني ، وخلق(مؤسسة الدولة) كمؤسسة رائدة فى التعبير عن مصالح الطبقات المتنفذة ، مع
الحد من امكانيات تحديث المجتمع لنفسه وتشكيل اخر جديد لانطلاق ، وقد ساهمت
المنظومة الرعوية في ترسيخ وقبول شرائح المجتمع التقليدى استغلال السادة بشكل غير
مباشر عبر قبول وتدعيم المنظومة القيمية السائدة ، لكن بالتدريج تنامى نظام رعوى
جديد لايعتمد علي المنظومة القيمية القديمة التى كانت تقدس السيد لذاتة ، بل حل محلها تقديس من
يملك القوة الاقتصادية والسياسية ، هذا النمط الرعوى الجديدة لا يعترف كثيراً بالقيم
الاجتماعية بل يعتمد على استمرارية تقديم الحد الادنى من البضائع السياسية
والاقتصادية للرعية ، هذا احد الاسباب الرئيسية التى ادت الى حتمية انفلات القوة
الاجتماعية المهمشة ضد المركز عندما تتدنى الخدمات المتوفرة لديها ، لقد أصبحت
المشاريع التنموية فى كثير من الاحيان معزولة عن حقائق البنية الاقتصادية
والاجتماعية ، وأصبح طريق النمو الرأسمالى الذي يعتمد على تنمية الدخل القومى هو
الانموذج المنشود للتخطيط التنموى بخاصة فى ظل العولمة وأنتشار المفاهيم
الليبرالية الرأسمالية وحرية السوق والخصصة ، ومما لا شك فيه ان الادراك الحقيقي
لجوهر العملية التنموية والتخطيط التنموى يفصح عن طبيعة الشرائح المكونة للقوى
الاجتماعية المهيمنة وجوهر اختياراتها السياسية وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية
، فمعظم البرامج الاقتصادية المطروحة اعتمدت على الريع الذى يأمنها من التمويل
الخارجى أو من مصادرها الاولية زراعية كانت أو رعوية ، وكانت النتائج المشوهة
للتنمية ما اسماه احد الباحثين (التخلف الذاتى ) : ( ايه تنمية تلغى التبعية فى
الوطن العربى ) مجلة الوحدة السنة الرابعة العدد 45 يونيو 1988م ص65 وأصبحت الدولة
عبءً على البنية الاقتصادية ، فى المقابل أصبحت الطبقة الريعية هى الطبقة التى
تمتلك ناصية اتخاذ القرارات الرئيسة الخاصة بالمجتمع ، وتمثل دورها فى الحيلولة
دون تطور قوى المجتمع ، والقول ان الطبقة أصبحت ريعية لا ينفى وجود بعض الافراد
أصحاب المشاريع الذين يقومون بمساهمة انتاجية حقيقية ليتطورون بعض قوى الانتاج ،
ولكن الامر أصبح يتعلق بالمهمة التاريخية لهذه الطبقة وهل أصبح بمقدورها تطوير
الانتاج ؟ ام أصبحت وظيفتها عرقلت تطوير الانتاج ؟ حيث تسعى النخب الى استخطاب
شرائح من المنتفعين عبر تكوين شبكة من المصالح الرأسمالية ، الامر الذى يساعد على صد القوى الاصلاحية المناوئة وتقيد
الروابط الرعوية وأستخدام الواسطة لتخليص كفاءة الخدمات ورفع نسبة الفساد الادارى
والسياسى (مصطفى نور الدين ، حوار حول التبعية والتخلف مع : د. محمد دويدار ،
الوحدة السنة الرابعة العدد 45 يونيو 1988م ص 149-150 ) ويلخص بروفسير محمد هاشم
عوض الاستراتيجية الاقتصادية المشوهة فى الاتى : ( تعاقبت على السودان فى مدى
اربعة عقود من الاستقلال ثلاثة انظمة مدنية وثلاثة أنظمة عسكرية ، وتحت كل النوعين
من الحكومات حققت المجموعات المفضلة غالبية المنافع ، وكان المستفيدون فى الاغلب
قرب مركز القوة فى الخرطوم وتشكل المفضلون أساساً من كبار المسؤولين الادارين فى
الحضر ورجال الاعمال ، برغم من ان الاشخاص المحظوظين كانوا يميلون الى التغير مع
كل نظام حكم ، وقد كانت النتيجة أعادة توزيع الثروة لمصلحة التنمية الحضرية ، فى
النهاية فأن الفقراء المحرومين من المشاركة الاقتصادية تقل لديهم فرص صيانة حقوقهم
الاساسية ، الامر الذى يؤدى بهم الى أحساسهم بالتهميش ومن ثم قيامهم بالثورة
والتمرد ضد انظمة الحكم القائمة ، والحرب والتمرد من ناحية آخرى يضاعفان من
امكانية انتشالهم من حالة الفقر والتهميش التى يعانونها ، فيظلون فى الدائرة الجهنمية الى ما شاء لهم الله ،
الامر الذى يجب ان يوضع فى الاعتبار هو ان التركيز على النمو الرأسمالى وفق مبدأ زيادة الدخل السنوى يسبب فى المقابل
اختلالاً عميقاً فى بنية المجتع وذلك لسببين ، أولهما ما ينتج عن سياسات السوق من
تفاوت مجتمعى على أسس طبقية الذى قد يأخذ البعد الطائفى أو الجهوى ، الامر
الذى يمكن ان يترتب عليه انشقاقات مجتمعية
خطيرة ، السبب الثانى يتعلق بالاهتزاز القيمى الذى يصاب به المجتمع من جراء انهيار
القيم التقليدية والانكسار ، ومن ثم الانزواء بسرعة فائقة من دون اتاحت الفرصة
لدمج القيم وأعادة تشكيلها لتتواكب مع المتغيرات الاقتصادية ) . هذا ما كان نواتج
أنقلاب الثلاثين من يونيو 1989م الذى استند على بعض دوائر القوة التقليدية
والاثرياء الجدد والفئات الطفيلية عبر استراتيجيتها القومية الشاملة والربع قرنية
وخطط آخرى ، لقد ارتبطت فى مجملها على تحرير التجارة وتعويم العملة الوطنية
والسيطرة على الجهاز المصرفى تحت دعاوى اسلمته ، وتخلى الدولة عن دورها الاقتصادى
والاجتماعى عن طريق رفع الدعم عن السلع والخدمات الاساسية بما فى ذلك الصحة
والتعليم ، وخصصة القطاع العام وبالتالى الاعتماد على القطاع الخاص المحلى
والاجنبى فى قيادة النشاط الاقتصادى والاجتماعى ، وحصر دور الدولة فى توفير
البنيات الاساسية والتسهيلات اللازمة للاستثمار ، هذه التطورات والمتغيرات الهامة
والخطيرة كان لها تأثيرها البالغ فى تعميق ظاهرة التنمية غير المتوازنة والتفاوت
بين الأقاليم وبين الفئات والطبقات الاجتماعية على السواء ، حيث ادت الى افقار
غالبية المجتمع وانقسامه بصورة حادة بين اغلبية كاسحة تزداد فقراً وأقلية غنية
تزداد ثراءً ، وتشير معظم الدراسات الى ان 90% من شعب السودان يعيش تحت خط الفقر
بجانب أنتشار ظاهرة الاختلاسات فى القطاع العام وأجهزة الدولة ، وتطور أشكال
واساليب الفساد المالى والادارى وأستغلال والنفوذ ، وأنتشرت ايضاً مظاهر الفساد
والتحلل الاجتماعى والاخلاقى وضعف القيم امام الحاجة جنباً الى جنب مع سوء التغذية
والامراض المرتبطة بها ، عليه ومن هذا العرض لتطور ظاهرة التفاوت فى النمو
الاقتصادى والاجتماعى بين أقاليم البلاد المختلفة ، تتضح لنا حقيقة الاوضاع
الاقتصادية المتردية التى ظلت تعيشها البلاد طوال فترة الدولة الوطنية ما بعد
الكولينالية ، فضلاً عن حصيلة سنوات حكم الانقاذ وسيطرة برجوازية الدولة
البروقراطية " المدنية
والعسكرية " وحلفائها من الرأسمالية الطفيلية وعملاء رأس المال الاجنبى
وعصابات السوق الاسود على مقدرات البلاد أكثر من ربع قرن ، فى طوال هذه الفترة لم
يكن يهم هذه الفئات سواء امتصاص اكبر قدر من الفائض الاقتصادى من البلاد بأقل
تكلفة ممكنة وفى سبيل ذلك لم تتورع من سرقت قوت الشعب وبيع الوطن لاجنبى بقرض
الاستثمار ونحوها ، وبهدف البقاء فى كراسى الحكم ، هذه الاوضاع هى ايضاً حصاد اكثر
من 55 عاماً من سيطرة القوى المهيمنة على مقاليد الامور فى البلاد بأشكال وتحالفات
سياسية متعددة ومتنوعة ، وذلك يعنى ان طريق هذه الفئات الاجتماعية وبرنامجها
السياسي والاقتصادى والاجتماعى ، قد أوصلنا عملياً إلى انفصال الجنوب عن الشمال
وحروب دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق ، المشكل فى جوهره ليست فى الاشخاص ، ولا
فى شكل الحكومات ( مدنية – عسكرية ، حزب واحد ، تحالف احزاب .. الخ ) وانما فى
النهج الاقتصادى العام ، وفى نمط التنمية ، وفى توجهاتها ، هل هى فى مصلحة كل فئات
المجتمع ؟ ام هى فى مصلحة فئات محددة ؟ ومن هنا تنبع ضرورة البحث عن استراتيجية
جديدة للتنمية انطلاقاً من تجربة السودان الملموسة ، ومن أحتياجات تطورها وتقدمها
، بالاضافة الى تجربة البلدان الصديقة والشقيقة ، وضمن هذا الاطار وحده فقط يمكننا
من مواجهة مشكلة التنمية الغير متوازنة
والنمو الغير متساوى فى الاقاليم مواجهة شاملة وحاسمة وذلك لان هذه الظاهرة هى
نتاج ظروف السيطرة الاستعمارية وهى ايضاً نتاج نمط التنمية الرأسمالية التبعى الذى
فرضته الادارة الاستعمارية ، الذى سارت عليه الفئات التى تربعت على كراسى الحكم منذ
بزوغ الدولة الوطنية ما بعد الكولنيالية .
وبعض القوى الجنوبية والحركات المسلحة فى
دارفور وجنوب كردفان .. الخ وتيار العدمية القومية يرجع هذه الظاهرة لاسباب دينية
وعنصرية ويقول ان السبب هو السيطرة العربية الاسلامية ، وهذا التفسير خاطىء يتجاهل
تماماً حقائق الواقع والتطور التاريخى لنشوء وتطور ظاهرة التنمية الغير متوازنة
ويتعامى عن رؤية حقيقة ظاهرة عدم توازن التنمية كنتاج لنمط التنمية الرأسمالى
التبعى وكظاهرة ملازمة له ، يقيد انتاجها باستمرار وفى اشكال مختلفة واذا كانت
مناطق الجزيرة وشمال البلاد عموماً حظاً
اكبر من التطور الاقتصادى والاجتماعى ، فأن ذلك لا يرجع الى تكوينها وثقافتها
الاسلامية العربية ، بل بسبب السياسات الاستعمارية وماكنزم نمط التنمية الرأسمالى
التبعى وافرازاته ، والواقع ان طرح القضية بهذه الشاكلة ، اى باعتبارها صرعاً
للهويات والمركز والهامش يحولها الى مطالب غير محددة ، والى مجرد شعور بالغبن
والاجحاف الاقليمى دون الوعى بمسبباته الحقيقية وهذا بالضبط ما تريده وتحاوله
فعلاً الفئات الرأسمالية جنوباً وغرباً وأصحاب نظرية الهامش والمركز ان تطرحه ، اذ
ان من خلال ذلك تعمل هذه الفئات وقياداتها السياسية على تحويل المطالب المشروعة
لجماهير الاقاليم المعنية الى ورقة ضغط هامة فى صراعها من أجل البقاء والنمو
واقتسام السلطة والفائض الاقتصادى مع الفئات المسيطرة على السلطة والسوق ، وفى
سبيل ذلك لا تتورع هى الاخرى من استغلال النعرات القبلية والنزعات الجهوية
والاختلافات الدينية والطائفية .. الخ ، من أجل حماية مصالحها ومواقعها والشواهد
على ذلك كثيرة ابرزها ما حدث من تجربة الحكم الذاتى الاقليمى في الجنوب بعد 1972م
وكذلك تجربة الحكم الفدرالى الماثلة الان ، فقد تحول جهاز الحكم الذاتى الاقليمى
فى الجنوب الى مصدر رئيسى للثروة والتراكم وسط الوزراء وكبار الموظفين ، بفضل هذا
المصدر أصبحت هناك فئات رأسمالية جنوبية واسعة وفى نفس الاتجاه فى تجربة الحكم
الذاتى الاقليمى سابقاً والفدرالى حالياً فى الولايات الشمالية ، ووسط صراعات
الفئات الرأسمالية المختلفة والتنافس المحموم لجمع الثروات وتراكمها ضاعت الاهداف الحقيقية للحكم الذاتى الاقليمى
فى الجنوب والحكم الاقليمى فى الشمال وتحولت الى اداة لخدمة قوى الدكتاتورية
والتخلف والتبعية ، انطلاقاً من ذلك فان قضية التنمية الغير متوازنة لا يمكن
مواجهتها وحلها الا فى جزء لا يتجزا من مشكلة التخلف والتبعية التى يعيشها
الاقتصاد السودانى وذلك دون اهمال القضايا الخاصة للاقاليم المعنية ، لقد فشلت
الدولة الوطنية بعد الكولنيالية فى مواجهة الوضع الموروث من سلطات الاحتلال
الاستعمارى البريطانى وتدعيم بالاستقلال الاقتصادى والتنمية الشاملة المتوازنة ،
والتكامل الاقتصادى مع البلدان العربية والافريقية المجاورة .
ثانياً : التنمية
المتوازنة :
يثير
مفهوم النمو المتوازن تسأولات فيما اذا كان يعنى ان تنمو مختلف الصناعات بمعدلات
متساوية ؟ تجيب نظرية التنمية المتوازنة بان معيار التوازن ليس فى ان تنمو سائر
القطاعات والصناعات بمعدلات متماثلة ، ولكن ان تنمو كل صناعة بمعدل يتلاءم مع
مرونة الطلب على منتجاتها ، اى مرونة الطلب فى الدخل القومى على منتجات الصناعة
ويكون النمو متوازناً اذا تحدد معدل نمو كل قطاع أو صناعة على اساس مرونة طلب
الدخل القومى على منتجاته ، فالزراعة والصناعة تنموان بصورة متوازنة اذا توفر لكل
منهما مرونة داخلية على منتجاتهما ، وكذلك الامر بالنسبة لكل فروع الصناعات
الاستهلاكية الغذائية أو النسيجية أو غيرهما ، اذ تعتبر نظرية النمو المتوازن ان
العقبة الرئيسية التى تواجه البلدان النامية هى ضيق حجم السوق الوطنى الذى يضعف
الحافز على الاستثمار ، ولذلك فان السياسة الاستثمارية لا بد ان توجه الى جبهة
عريضة من المشروعات الصناعية المتكاملة ، بحيث تمثل كل صناعة منها سوقاً مواتية
للصناعات الاخرى تكون بموجبها قادرة على توسيع السوق الوطنى وإيجاد حافز مشجع
لمزيداً من الاستثمارات ، كون هذه البلدان تتمتع بميزة نسبية فى انتاج السلع
الصناعية الاستهلاكية تستطيع بالتالى ان تقوم بتصديرها للعالم الخارجى ، وبناءً
على ما سبق لابد ابتدءاً الاسترشاد بمفهوم استراتيجية التنمية التى تتضمن الاهداف
العامة البعيدة المدى للتطور الاقتصادى الاجتماعى ، والمحاور الاساسية التى تبنى
عليها عملية التنمية تهدف الى احداث تغيرات نوعية عميقة فى البنية الاقتصادية
والاجتماعية من خلال مجموعة مترابطة من الخطط والبرامج التى يؤدى تنفيذها الى
القضاء على التخلف والانتقال بالمجتمع الى وضع اقتصادى افضل ، ويندرج مفهوم استراتيجية
التنمية فى اعطاء دفعة قوية متمثلة فى حد ادنى من الاستثمارات بحيث يتم توجيها على
عدد متنوع من الانشطة بشكل متزامن ، وان تكون هذه المشروعات متكاملة من حيث خدمتها
لاحتياجات الطلب ، اما عن اشكال التنمية المتوازنة من حيث شمول عملية التنمية
لقطاع الاقتصاد الوطنى ، لذا يؤكد بعض الدارسين على ضرورة ( التوازن فى النظام
الافقى للانتاج ) اى " التوزان بين الانشطة التى تخدم طلب الاستهلاك النهائى
والتوازن بين القاعدة الهيكلية وانشطة الانتاج المباشر " فقد رأى نبركسه
(ضرورة ان توجه الاستثمارات للقاعدة الهيكلية بحيث يتم خلق الطاقة الانتاجية فى
هذا القطاع قبل ان يتوازن الطلب على منتجاته وذلك لان منتجات القاعدة الهيكلية
تستخدم من قبل كافة الصناعات والمشروعات الانتاجية وعدم تطويرها سيخلق اخفاقاً على
المستوى القومى كله ) اما الانتقادات الموجهة الى نظرية التنمية هى : اولاً :
تتطلب نظرية الاستثمارات المتوازنة حجم ضخم من الموارد المالية والتقنية تعجز
البلاد النامية عن توفيره ويعلق (سنجر) على ذلك بقوله : " اذا ما تبين ان
بلداً من البلدان المتخلفة قادر على ذلك ، فانه لم يكن بلداً متخلفاً عندئذ ولم
تظهر فيه مشكلة القضاء على التخلف بشكل عام " . ثانياً : ان نظرية النمو
المتوازي تضع شرطاً رئيسياً وهو ان البلد المتخلف يبدأ نموه من العدم ، هذا مع
العلم بان التنمية تتحقق فى ظل بنيان اقتصاد معين هو بمثابة محصلة لما تم اتخاذه
من القرارات الاستثمارية وما تم تنفيذه من مشروعات فى وقت سابق ، فهذه القرارات
تشكل نمو غير متوازى . ثالثاً : يتعين وفقاً لاسلوب النمو المتوازي البدء بأنشاء
صناعات استهلاكية وتأجيل انماء صناعات السلع الانتاجية وهذا الاسلوب يؤدى الى
الاسراع بمعدل نمو الدخل فى الحقبة الاولى من النمو الاقتصادى ويبطىء معدل التنمية
مقارنة بما يمكن ان يحدث لو ان الموارد الاستثمارية قد وجهت من البداية نحو صناعة
السلع الانتاجية . رابعاً : افترضت هذه النظرية ان هناك عرضاً وافراً من الموارد
وان القيد الرئيسى لاستخدامها انما يتمثل فى الاسواق وعدم توفرها على الرغم من ان
ناحية العرض تمثل أهمية كبرى فى الدول النامية والتى تعتبر احد خصائصها الرئيسية
عدم مرونة جهازها الانتاجى . خامساً : ان اصحاب هذه النظرية ينادون بالمحافظة على
تناسبات جامدة سابقاً رغم ان الشرط الاساسي لتطور البلدان النامية هو بالتحديد
تحطيم التناسبات الموجودة وكسر الهياكل التى تعيق التطور . سادساً : ان ما تسعى
اليه نظرية النمو المتوازن من انشاء حشد كبير من الصناعات الاستهلاكية المتزامنة
من شأنه
ان يؤدى الى احد الامرين اما ان
تنشاء هذا المشروعات بحجم كبير يقارب الحجم الامثل وفى هذه الحالة فالاحتمال
الاكثر شيوعاً هو ان المشروعات سوف لا تعمل بكافة طاقتها أو ان تنشاء هذه
المشروعات بحجم صغير يقل عن الحجم الامثل للوحدة الانتاجية وفى هذه الحالة سوف
تنخفض الكفاءة الانتاجية لهذه المشروعات نظراً لضياع الوفرات التى يحققها الحجم
الامثل للمشروع .
بهذا العرض الاستهلالى المفتاحى لهذا
النظرية واهم الانتقادات الموجهة لها ، فالتنمية تعرف بأنها عملية مقصودة أو مخطط
بهدف تغيير البنيان الهيكلى للمجتمع بابعاده المختلفة لتوفير الحياة الكريمة لجميع
الافراد ، بينما النمو قد يتم دون اتخاذ آية قرارات من شأنها إحداث تغيير فى
الهيكل البنيانى للمجتمع . استناداً لما سبق يمكننا القول لن يكتمل الحديث عن
التنمية فى البلاد دون التطرق الى مظاهر التعددية الاقتصادية فى السودان ،
فالسودان يعانى من تركيز المشاريع التنموية فى أواسط البلاد ، بينما تعانى أطرافه
غياب المشاريع التنموية ، وقد عبرت الحركات المسلحة عن مظالمها الاقتصادية كما عبر
اهل المناطق الشمالية باستمرار على أهمال الحكومات المتعاقبة لمناطقهم ، عبر رفع
شعارات ازالة التهميش وتبلورت هذه الشعارات فى برامج الحركة الشعبية وجبهة الشرق
والحركات المسلحة فى دارفور ( حركة العدل والمساواة ، حركة تحرير السودان .. الخ )
، ان خطورة التنمية الغير متوازنة على الوحدة الوطنية تكمن فى ان تلك المجتمعات
التى تشعر بالاهمال فى الجوانب التنموية يقل ولاؤها للدولة . نعم لقد استمرت
الدولة الوطنية ما بعد الكولنيالية فى تركيز المشاريع التنموية فى منطقة الوسط كما
سلف ذكره ، وبرز فى الواقع اختلاف فى وجهات النظر حول ايهما افضل توزيع المشاريع
التنموية على انحاء البلاد حيث تتساوى كل أطرافها فى هذه المشاريع ؟ ام تركيز
المشاريع التنموية فى المناطق التى تتوافر فيها فرص نمو أكبر ثم توزيع عائدات هذه
المشاريع على المناطق الاخرى ؟ فى الواقع لم يتم توزيع المشاريع على اساس النسق
الاول ولا على النسق الثانى ولم يتم توزيع العائدات على المناطق الاخرى اذ تشكو
الاطراف من تدهور الاوضاع الاقتصادية ونقص الخدمات الاساسية .
ان أعطاء الاولوية لمشاريع التنمية فى الاطراف
عبر تقديم الحكومة المركزية الدعم والتسهيلات ، خاصة والسودان يعانى من الانقسامات
القبلية والعرقية ، التى ستكون التنمية غير المتوازنة حافزاً لها بما ينعكس سلباً
على استقرار البلاد ، ومن هنا يبقى من الانصاف والعدالة ان يكون توزيع الموارد على
مستوى البلاد وكيفية اقتسام الثروة من خلال سياسات مدروسة وواضحة تهدف اساساً الى
تحقيق المساواة بين الاقاليم المختلفة ، والاصل فى الثروة ترجع الى الموارد والسلع
الاقتصادية العينية ، وتعتبر الثروة المتوفرة فى السلع والموارد الاقتصادية هى
الثروة الحقيقية ، ولكى يتحقق الاستخدام الكفء والتخصيص والتوزيع العادل للثروة لا
بد ان تصب جميع الموارد المالية والقومية فى الموازنة العامة حتى يمكن توزيعها على
مختلف الاقاليم وعلى مختلف اوجه الاستخدام بالصورة التى تحقق العدالة والمساواة ،
وتعمل على تقليص التفاوت بين الاقاليم وصولاً الى ردم الفجوة تماماً ، خلال فترة
معقولة ومعلومة ، ولكى يتم توزيع وتخصيص الموارد المالية بصورة عادلة لا بد من من
تحديد "ماهية " وموعين الثروة بصورة واضحة تحسم الجدل الدائر بين اطراف
النزاع السودانى حيث انهم لا يملكون حتى رؤية وأضحة حول ماهيتها أو طرق تقسيم
عائداتها ، فهناك موارد وثروات ما زالت فى رحم الغيب مما يجعل الامر فقط حصيلة
كثير من التسويات ، تقترح الورقة اولاً يجب التعرف على متوسط دخل الفرد كما ينبغى
إعداد خرائط دقيقة للخدمات الصحية والتعليمية وخدمات مياة الشرب الآمنة وغيرها من
الخرائط المتعلقة بالبنية التحتية والخدمات الاساسية على مستوء الاقاليم التى تفتقر
اليها ، فاذا كان استيعاب الاطفال فى مرحلة الاساس فى الجزيرة يصل الى 90% فنصف
هذا النسبة 45% هى فى دارفور وأقل من الثلث اى 30.1% فى الشرق ، فهذا يتطلب أعادة تخصيص الموارد
المالية والبشرية بصورة جذرية بحيث الاخذ فى الاعتبار الكثافة السكانية ومستوء
الخدمات على مستوء المجالس الحضرية والريفية ، بعيداً عن توجيه الخدمات الى جهات
وقطاعات لا تخدم قضايا التنمية والانصاف والعدالة ، ومن اهم المؤشرات التى يتعين
اخذها فى الاعتبار عند النظر فى أقتسام الثروة هو نصيب الفرد الواحد من الانفاق
على خدمات الرعاية الصحية والتعليم وخدمات الاسكان والمياة والكهرباء على مختلف
المستويات الحضرية والريفية ، وكما تتطلب عدالة التنمية بان تكون هنالك رؤية تستند
إلى حقوق الانسان والديمقراطية فى وطن واحد من دون تميز ، فالتنمية هى أحد متطلبات
حقوق الانسان من خلال الاعلان العالمى للحق فى التنمبة المعتمد من الجمعية العامة
للامم المتحدة سبمتمر1986م " ويقوم هذا الاعلان على تحقيق التعاون الدولى فى
حل المشاكل الدولية ذات الطابع الاقتصادى أو الاجتماعى أو الثقافى أو الانسانى
وتعزيز حقوق الانسان والحريات الاساسية والتسليم بأن التنمية عملية اقتصادية وأجتماعية
وثقافية وبيئية وسياسية شاملة ، تستهدف رفاهية السكان وحقهم فى تقرير أوضاعهم
السياسية بحرية لتحقيق تنميتهم الاقتصادية وممارسة السيادة التامة والكاملة على
مواردهم الطبيعية كافة " ، وقد تواجه التنمية كثير من المهددات التى يمكن
تلخيص ابرزها فى الاتى : اولاً : الانتهاكات الواضحة لحقوق الانسان ، تميز عنصرى ،
احتلال ، تهميش ، دكتاتورية .. الخ ، هذا من شانه ان يؤدى الى النزاع وعدم
الاستقرار الذى يضعف الجوانب الاقتصادية بتحويل الموارد إلى الجوانب الامنية
والعسكرية ، وهذا ما نشاهده ونكابده خلال اكثر من اثنين وعشرون عاماً من حكم
المؤتمر الوطنى ، اذ ان الميزانية العسكرية فى ظل الحروب تبتلع كل موارد الدخل .
ثانياً : عدم أحترام مبادئ الحكم الديمقراطى ، وفى مجال التنمية الانسانية يطلق
على هذا الحكم بانه الحكم الغير الصالح أو الراشد . ثالثاً : تجاهل الجوانب
الاجتماعية والثقافية والسياسية للتنمية الانسانية بحيث تفتقر ايضاً على الجوانب
الانتاجية .
على هذا النحو يبقى الادراك لكل ماسبق
الاشارة اليه ان الفشل فى التنمية الغير متوازنة هذا الفشل هو ليس فشل اشخاص ، كما
سبق القول ، وأنما هو فشل نمط معين من استراتيجيات التنمية ، هو نمط التنمية
الرأسمالية التبعى ، وهو ايضاً فشل فئات اجتماعية معينة هى التى ظلت تتحكم فى
مقدرات البلاد منذ الاستقلال ، والان تحصد هذه التجربة نتائجها المأساوية المعروفة
لدينا ، ليس امامنا سوء نبذ نمط التنمية الرأسمالية التبعي وانتهاج نمط تنمية
جديدة تقوم على التنمية المتوازنة الشاملة ، والاستقلال الاقتصادى ، والاعتماد على
النفس ، واشباع الحاجات الاساسية لجماهير ، والعدالة فى توزيع العائدات ، والاتجاه
الجدى للتكامل الاقتصادى مع البلدان العربية والافريقية لبناء اقتصاد وطنى مستقل ،
يلبى الاحتياجات الاساسية لمختلف فئات الشعب بما فى ذلك الفئات الرأسمالية المنتجة
والمرتبطة بالمصالح العليا للبلاد . وأهم شروط تطبيق منهاج استراتيجية نمط التنمية
المتوازنة هو وجود سلطة ديمقراطية تجسد الارادة الوطنية ومصالح شعب السودان وليس
مصالح فئات محدودة من المجتمع ، والالتزام بمنهج التخطيط الاقتصادى والاجتماعى
الشامل ، وأعادة الدور الريادى والقيادى للقطاع العام فى عملية التنمية وتحديد دور
القطاع الخاص ، توطيد نظام ديمقراطى يمكن أوسع الجماهير من المشاركة الفعالة فى
صياغة خطط التنمية ومتابعة تنفيذها ، هذه الاستراتيجية هى الطريق لانقاذ اقتصاد
البلاد ، وتصحيح مساره ، لمواجهة التنمية الغير متوازنة وتداعياتها من قضايا
الهوية وصراع الهامش والمركز الذى يمثل محصلة غير سوية للاختبارت السياسية للنظم
المتعاقبة التى تم تعزيزها خلال حكم الانقاذ مما هدد وحدة البلاد وعمل على تفتيتها
.
المراجع والهوامش :
-
ديدى ، ولد السالك :
مدخل إلى تنمية عربية مستدامة (المستقبل العربى ) عدد 356 اكتوبر 2008م السنة
الحادية والثلاثون .
-
ابوصالح – محمد حسن
سليمان : التخطيط الاستراتيجى للاقتصاد السودانى البعد المفقود .
-
نبلوك ، تيم : صراع
السلطة والثروة فى السودان منذ الاستقلال وحتى الانتفاضة – ترجمة الفاتح التيجانى
ومحمد على جادين .
-
مجلة التنمية
والسياسات الاقتصادية " أصدار صندوق التقد العربى " المجلد السابع ،
العدد الاول ديسمبر 2004م .
-
حزب البعث العربى
الاشتراكى القومى " التقرير السياسي المجاز من المؤتمر القطرى الثانى 2003م
" .
-
ورقة نظرية التنمية
المتوازنة : بدون تاريخ ومكان أصدار – تأليف الاقتصادى الانجليزى نبركسه .
-
التفاوت الاقليمى
والتنمية المتوازنة " ورقة حزب البعث العربى الاشتراكى المقدمة للمؤتمر
القومى الدستورى " المنشورة فى مجلة الثقافة الوطنية 1988م ، (العدد دون
ترقيم) .
مقال في المستوى بارك الله فيك
ردحذف