الاثنين، 10 يونيو 2013

دولة القانون الهادي الشواف



دولة القانون
محاولة لتعزيز وتجذير المفاهيم


                                                                                             الهادي الشواف
عندما نتحدث عن دولة القانون هذا يعني بالضرورة الحديث عن دولة ديمقراطية تتمتع بالحريات العامة، وتكون حقوق الانسان فيها مصانة، وتوجد فيها انتخابات حرة ونزيهة، وتتوفر فيها سيادة القانون واستقلال القضاء، مع وجود منظمات مجتمع مدني نشطة وفعالة، تتمتع بمساحات واسعة من حرية صحافة ورأي وحرية تعبير، فضلاً عن وجود دستور عصري وديمقراطي ومواكب للتطورات التي حدثت علي مستوي الحياة البشرية، ومتجانس مع مفاهيم ومواصفات دولة المواطنة ودولة القانون، ويعكس عقد اجتماعي معبر عن كل مكونات الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية... الخ، ويكون الدستور هو الحامي لحقوق المواطنين، هذا كله وغيره يمكن ان نجده في دولة القانون، التي تعتبر البديل المتفق عليه حتي الان عن دولة الاستبداد والظلم والقهر والفساد أوما يسمي ب(الدولة البوليسية)، التي تعيشها معظم شعوبنا في المنطقة العربية والاسلامية علي حد سوا، ودولة القانون هي محاولة لاعادة الاعتبار للدولة كشخصية اعتبارية حاضنة ومعبرة عن كل مكونات الشعب، وليس ملك لشريحة معينة تتحكم في مقدرات شعبها وتفسد فيها كما تشاء، وبالمقابل تأتي دولة القانون مناهضة للذهنية الإقصائية، ومقاومة للانظمة الاستبدادية ذات الفكر الاحادي والفردي والاناني، وياتي الحديث في هذه المساهمة استكمالاً لما بدأناه في مساهمة سابقة حول دولة المواطنة، ونسبة للترابط الموضوعي ما بين المفاهيم التي تدور حول دولة المواطنة ودولة القانون والعقد الاجتماعي، نسعي لاستكمال هذا الجهد بالحديث عن العقد الاجتماعي في المستقبل القريب، هذه المساهمة تاتي في إطار ورشة (المسرح وقضايا الاستبداد في الوطن العربي) التي تم تنظيمها من قبل جماعة مسرح السودان الواحد ونادي التراث والثقافة الوطنية وباستضافة كريمة من مركز الدراسات السودانية.
          للقانون تعريفات متعددة بتعدد المصادر والمناهج التي يستند عليها (فلسفة، سياسة، علم اجتماع، علم نفس... الخ)، وفي هذه المساهمة سنستند علي التعريف الذي يقول بانه (مجموعة من القواعد العامة المجردة والملزمة، التي تسنها الدولة عبر الآليات والوسائل المتعارف عليها في طرق سن ومراجعة وإجازة القوانين)، ويري الكثير من المختصين ان مصطلح دولة القانون هو مصطلح سياسي من جهة، وقانوني من جهة اخرى، فسياسياً تعبر دولة القانون عن شريكين اساسيين لديهما مصلحة مشتركة في تحقيق الاستقرار والازدهار في الدولة هما الحاكم والمحكومين، فالسلطة الحاكمة تستند علي هذا المصطلح بشكل سياسي لاكتساب صفة الشرعية في مواجهة المحكومين، ويستخدم المحكومين هذا المصطلح سياسياً لمواجهة السلطة الحاكمة لاكتساب وتثبيت صفة الشريك الشرعي في السلطة، والضامن لها من الانحراف والانزلاق نحو اساءة استخدام السلطة من قبل الحاكم، ويتم كل ذلك عبر الوسائل المشروعة المتمثلة في الرقابة والتقويم والتعبير الاحتجاج السلمي وغيرها من وسائل الجماهير المعروفة والمجربة، ودولة القانون كمصطلح قانوني تعمل علي انتقال السلطة الحاكمة من الشخصي و(الذاتي) الي التجريدي و(الموضوعي) الذي اساسه القانون والمؤسسات المعبرة عنه.
          اذن ان دولة القانون كما عبر عنها د.بسام دلة هي: (شعار سياسي ونظرية دستورية هدفها تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وهذا التنظيم يتم من خلال إيجاد علاقة متوازنة بين طرفي العلاقة، فالحاكم كأحد طرفي العلاقة وممارس للسلطة يرغب في تغليب ضرورات ممارسة السلطة، والمحكومين باعتبارهم الطرف الاخر لهذه العلاقة يرغبون في تغليب ضمانات الحقوق والحريات العامة، ولكن ضرورات ممارسة السلطة تتجلى من خلال التقيد القانوني للحقوق والحريات العامة، وضمانات الحقوق والحريات العامة تتجلى من خلال التقيد القانوني والسياسي للسلطة)، فدولة القانون هي المنوط بها تحقيق هذا التوازن بين ضرورات ممارسة السلطة وضمانات الحقوق والحريات العامة، عبر مجموعة من التدابير التي يجب ان ترسم حدود واضحة للحاكم والمحكومين ليتحركوا فيها ويتقيدوا بها ولا يتجاوزونها، وكذلك جعل الحاكم والمحكومين يتقيدون بالاحكام القانونية ويخضعون للمؤسسات لا للاشخاص، بما يعرف بالانتقال من المشخص الي المجرد، وبمعني آخر  من الفيزيائي الي الاعتباري، ولكن دولة القانون ببعديها السياسي والقانوني لا تحقق منظومة حكم نوعي لوحدها، فنوعية الحكم في عصرنا الراهن تحتاج الي عدة مفاهيم يجب تجذيرها في تربتنا الوطنية مثل (الديمقراطية، والحكم الراشد، ودولة المواطنة، ودولة القانون، والعقد الاجتماعي.. الخ)، مع الاهتمام بالبعد التنموي للحكم، هذه المفاهيم يجب توطينها وجعلها تمشي بين الناس وتشكل جزء من وعيهم الجمعي، كما يجب ان تمتلك الجماهير آليات للرقابة والتقويم من خلال توسيع فرص المشاركة المتساوية لاكبر قدر من المواطنين.
          اذن دولة القانون هي نظرية دستورية تهدف الي تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين من خلال تحقيق التوازن بين الطرفين، فضرورات ممارسة السلطة تحتاج الي التقيد السياسي والقانوني للحقوق والحريات العامة، وكذلك ضمانات الحقوق والحريات العامة تحتاج الي التقيد القانوني والسياسي للسلطة، فدولة القانون بمفهومها الواسع هي تحقيق التوازن ما بين ضرورات السلطة وضمانت الحقوق والحريات العامة، فاذا تركت السلطة دون تقيد سياسي وقانوني فانها تتحول الي سلطة مستبدة لا محال، واذا تركت الحقوق والحريات العامة دون تقيد قانوني وسياسي فانها ربما تتحول الي فوضى يصعب التحكم فيها، فالسلطة المستبدة تكبل الحريات العامة وتصادر الحقوق، وتحول الانسان الي مستعبد وتحجِّم دوره في الحياة العامة، وتسلبه حريته وإرادته، وتحرمه من المساهمة في تقرير مصيره من خلال المشاركة الفعالة في ادارة شؤونه، وبالتالي يتحول الي انسان مقهور لاحولة ولا قوة غير التبعية والطاعة الاعمياء للحاكم، ولا ارادة له سوى ارادة السلطان، وكل تفكيره وجهده وكده يبذله من اجل ارضاء السلطان، وبالمقابل يتحول السلطان الي طاغية مستبد ومتجبر، يملك كل ما حوله ويتحكم فيه ولا ياتيه الباطل من بين يديه، كل افعاله واقواله صحيحة لا تحتمل الخطأ وهو وحده يمتلك الحقيقة المطلقة، وهو المالك لمفاتيح المعرفة وغيره عبارة عن مجموعة من الجهلة والعاطلين عن التفكير ومسدودي الافق، ولا يمتلكون القدرة علي تقدير مصالحهم، فهو وحده الذي يعرف حدود مصلحتهم، ومصيرهم مقرون بوجوده علي سدة الحكم، فهو اذن الذي يقودهم الي مصيرهم السرمدي، وبتالي هو يعتبرالمخلص والمنجي وبيده كل شئ - كل شئ- هذا ما يتوهمه المستبد وهو ايضاً ما يصدقه المستبد بهم المسكونون بذات الوهم، فالاستبداد يحتاج الي بيئة حاضنة ومواتية لينمو ويترعرع فيها، هذه البيئة يساهم في توفيرها طرفي العلاقة الحاكم والمحكومين، الحاكم يسعي الي توفير هذه البيئة من خلال ما يجده من مساحة يغيب فيها الرقيب الرادع، فيتمدد فيها ويسطو وينفرد بالقرار ويركل القانون جانباً، ويدير الدولة بقوانين وتدابير من بنات افكاره أوتختارها له بطانته وتفصلها علي قدر مقاسه، ومع ما يتوافق مع رغباته الذاتية ويتماشي مع اهوائه ليستمر اكبر فترة في كراسي السلطة، والمحكومين يساهمون في تعزيز هذه البيئة من خلال الاستسلام والخضوع لرغبات الحاكم، وعدم الاطلاع بدورهم المنوط بهم كشركاء اساسين في الحكم، اذن هي علاقة تبادلية ما بين طرفي العلاقة كل منهما يغذي الآخر سلباً أو إيجاباً، في ظل غياب الوعي بالحقوق والواجبات، وفي ظل عدم توفير آليات ووسائل الرقابة والدفاع عن الحقوق، ويظل الحاكم يلعب دوره الذي رسمه لنفسه بدقة كجلاد ومستبد وطاغية بتعزيز ومساندة من بطانة السوء، ويظل الشعب يلعب دور الضحية الذي رسم له وساهم هو في اختياره من خلال استسلامه وخضوعه لرغبات الحاكم، كل منهم يغذي الاخر، يزداد الحاكم استبداداً وطغياناً، ويزداد الشعب استسلامناً وخضوعاً، فتتحول الدولة الي ملك عضود ينداح فيها الفساد والمفسدين، وتنتشر فيها المحسوبية، ويسودها الظلم والبطش والقهر، هذا هو حال الدولة التي يغيب فيها القانون ويسود فيها الاستبداد في كل مكان وفي أي زمان، الي ان تتغير موازين القوة ببروز مجموعة من المصلحين ودعاة الحرية والحقوق من وسط الشعب، مسلحين بالوعي والمعرفة، ويمتلكون الإرادة الكافية لبث الوعي والعمل بين الجماهير وتحريضهم لاحداث الثورة والتغيير والاتقلاب علي الواقع الفاسد وغير الطبيعي، واحلال محله الوضع الطبيعي وهو التوجه نحو بناء دولة القانون، وواحدة من مداخل انجاز هذا التغيير هو تعزيز وتجذير المفاهيم المتعلقة بدولة القانون، وانزالها الي ارض الواقع  بجعلها واقعاً يمشي بين الناس.
          فالدولة في نشأتها التاريخية قبل ان تتبلور كارض وشعب وسلطة، مرت بأنظمة سلطوية مختلفة، تجسدت في النظام القبلي، من خلال سلطة الأم والأب مروراً بشيخ وزعيم القبيلة.. الخ، وفي مرحلة لاحقة بعد ظهور فلاحة الأرض وامتلاك الأراضي الزراعية، ارتفع مستوى الصراع وأصبحت السيادة والشرعية للمنتصر الذي يمتلك القوة.. الخ، وفي مرحلة من المراحل اتجهت السلطة للبحث عن شرعية اخري، فاتجه البعض الي البحث عن شرعية خارج تصورات البشر، فكان إدعاء الحكام بأنهم آلهة أو انهم يحكمون نيابة عن الآلهة، وينفذون أوامر الآلهه (الفراعنة مثلاً)، والبعض الاخر ركن الي الاعتقاد في ارواح السلف ليستمد منها شرعيته وقوته (بعض القبائل السودانية مثلاً)، وكان نظام الحكم - اذا جاز تسميته – في صدر الاسلام يدار من قبل الرسول (ص) بأوامر مباشرة من الحق سبحان وتعالي في الكثير من الشؤون عن طريق الوحي، والتي صارت من بعد ذلك اوامر مكتوبة في القرآن الكريم، ومحفوظة كسنة سنها الرسول (ص)، وبعد انتقال الرسول (ص) الي الرفيق الاعلي، اصبح الحكام ينهلون من هذا الإرث كل على حسب زاوية نظره الخاصة واجتهاده، فكان هنالك مستوى اعلى من الصراع حول السلطة واثبات شرعيتها، خاصة بعد نهاية الحكم الراشد، حينما ارتفعت وتيرة الصراع حول شرعية السلطة، وكيفية ممارستها ومن يمارسها، وتنوعت فيها ادوات ووسائل الصراع، وكان العنف والبطش والقمع والاستبداد عنواناً عريضاً لكثير من فترات الحكم، حيث تم استخدام النص الديني وتحويره وتوظيفه لخدمة السلطان وارهاب الخصوم والتنكيل بهم، وعن طريق ذات النص الديني تمت ممارسة انواع متعددة من القمع والاستبداد والطغيان، والتاريخ العربي والاسلامي من قديم الزمان والي يوم الناس هذا سجل لنا الكثير والمثير من الاحداث والشواهد، ومن ذات المنهل جاءت مقولة (الحاكمية لله)، وتم توظيفها وتصديرها كمقابل للمقولات التي طرحتها الديمقراطية بأن (السلطة من للشعب وللشعب)، فدستور السودان لسنة 1998م اورد في المادة (4) ما نصه (ان الحاكمية في الدولة لله خالق البشر)، وجاء نص المادة (40ن) التي تناولت قسم الرئيس علي النحو التالي: (أقسم بالله العظيم أن اتولى رئاسة الجمهورية في عبادة الله وطاعته)، والذي عدل في دستور 2005م ب (أقسم بالله العظيم بوصفي رئيساً للجمهورية ان اكون مخلصاً ومصادقاً في ولائي لجمهورية السودان وان اؤدي واجباتي... لترقية ورفاهية وتقدم الامة)، هذا التحول يعكس شكل آخر من اشكال استغلال الدين واستخدامه حسب الحاجة، كما يعكس نوع من انواع الانتهازية النفعية في التعامل مع النص الديني، ويعكس أيضاً ارتباكاً واضحاً، يؤكد ان هذا النص فيه التباس حتي لدى من يدعون انهم ظل الله في الارض، وفي هذا الخصوص يقول المفكر الفلسطيني الدكتور عدنان ابراهيم، في مقابلة له مع الاستاذ علي الظفيري، في برنامجه (في العمق) علي قناة الجزيرة: (بالنسبة لموضوع التشريع والحكم اود ان الفت نظر المشاهدين والمشاهدات الي ان قضية الحكم بالذات يكتنفها التباس عويص في النص القرآني وفي النص النبوي، كلمة الحكم في نصوص كتاب الله وفي نصوص السنة، لا تعني بأي حال من الاحوال الحاكمية بالطريقة التي طرحها الموردي رحمه الله عليه، وهو وسيد قطب، يعني ان يكون حاكماً كما يقال الآن رئيس أو ملك ، أبداً علي الاطلاق، الحاكمية في القرآن بكلمة واحدة، تعنى كما يُقال السلطة القضائية وليس السلطة التنفيذية، ابداً في كل آيات كتاب الله تبارك وتعالى، هنالك خلط، وعلي فكرة هذا الالتباس وهذا الخلط وقع فيه الخوارج الاوائل وكفروا بموجبه الامام علي واتباعه، ونفس الخلط حين قالوا لا حكم الا لله وإن الحكم إلا لله، ماذا قال الامام علي؟؟ أجابهم أحسن جواب قال: هؤلاء قالوا كلمة حق يراد بها باطل، صحيح ان الحكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، كأن الله هو الامير، هنا غير صحيح الامير هو انسان)، وقد ظلت الكثير من فترات الحكم في المنطقة العربية والاسلامية تصدِّر لنا هذا المفهوم (الحاكمية لله)، وان الحاكم هو من يجسد ارادة الله وينفذ احكامه، وهو الذي لديه الحق في تفسيرها، وعليه فهو صاحب السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبيده كل السلطات وعبرها ينفذ أوامر الله وليس ارادة الشعب، ومن خلال هذه المفاهيم ظلت فترات الحكم في المنطقة العربية والاسلامية يسودها الطغيان والظلم والاستبداد، الا بعض الفترات القصيرة التي صارت من قصرها كالوميض في بحر من ظلمات الاستبداد والطغيان.
          وتاريخياًعلي مستوى الدول الغربية، كانت السلطة تستمد قوتها وشرعيتها من الكنيسة (البابا) من خلال نظرية الحق الالهي، حيث ان الله هو الذي خلق الانسان وخلق السلطة العامة التي تأمر الناس، ويدخل الله في اختيار الحكام لاجل خير ومصلحة الرعية، هكذا يتم التضليل والتجهيل باسم الله وباسم الكنيسة، وهو ذات الاستخدام والاستغلال للدين لتغدغة عواطف الناس مع اختلاف الزمان والمكان، وفي القرن السادس عشر، جسدت اسبانيا علي سبيل المثال التطبيق الفعلي لاستغلال الدين والسلطة من خلال ما يعرف (بمحاكم التفتيش)، حين أصبحت اسبانيا من أكبر القوى الكاثوليكية في العالم آنذاك، وكانت نموذجًا للدولة الدينية السلطويه، حيث كانت الكنيسه فيها تتحكم في تعين الملوك والأباطره الذين يحكمون بحاكميه تسمى ظل الله في الأرض، أوقانون الحق الإلهى، وللقضاء على ما سموه وقتها بالفساد، استهدفت المعتقدات المسيحية الأخرى وخاصة البروتستانتية وظهرت كلمة الهرطقه، وهي وصف لمن اختلف معهم في الشرح المحدد للنص الإنجيلى من قبل الملتزمين في الكنيسه الكاثوليكية، وقد تم اجبار الكثيرين من المسلمين واليهود على اعتناق المسيحية، ويكفي أن ننقل ما سطره (غوستاف لوبون) في كتابه "حضارة العرب" حيث يقول عن محاكم التفتيش: (يستحيل علينا أن نقرأ  دون أن ترتعد فرائضنا من قصص التعذيب والاضطهاد، التي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، فلقد عمدوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع، واقترح القس "بليدا" قطع رؤوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين عربي)، وقد استمرت محرقة محاكم التفتيش متقدة حتى القرن السابع عشر، بل وحتى الثامن عشر، وفي مرحلة متقدمة في عصر النهضة حصل تطور حيث تم الترويج لنظرية التفويض الالهي، أي ان الله لا يتدخل مباشرة في شكل السلطة ولا في كيفية ممارستها، ولكن السلطة تاتي من الشعب وهو الذي يختار من يحكمه، وهذا يعتبر تطور ونقلة نوعية احدثت قفذة كبيرة نحو مفهوم دولة القانون، الذي بدأ يتبلور في أواخر القرون الوسطى، حيث عرفت بريطانيا مجموعة من القوانين والقواعد التي تنادي بحماية حقوق الافراد، وثورة 1689م اعتبرت ان وضع القوانين أو الغائها أو تنفيذها من قبل السلطة يجب ان يقترن بموافقة البرلمان، وغير ذلك يعتبر عملاً غير مشروعاً، وفي الولايات المتحدة بعد اعلان الاستقلال عام 1776م ورد في وثيقة الاعلان (ان الحكومة يجب ان تكون في خدمة المحكومين ورضائهم، وان الحرية والمساواة هي حق لجميع الناس، وعلي الحكومة ضمان هذه الحقوق وحمايتها، وعلي المحكومين الحق في تغيير الحكام حين يتعسفون ويمارسون الاستبداد بحقهم)، وتعتبر الثورة الفرنسية هي أكثر من أحدثت نقلة نوعية في التوجه نحو دولة القانون، من خلال تأثرها بافكار (مونتسكو وجان جاك رسو) وغيرهم من المفكرين الذين اثروا عصر الانوار ووضعوا اللبنات الاولي للمفاهيم التي تعزز انسانية الانسان، حيث وضعت السيادة في يد الشعب، واقرَّت بانه لا توجد سلطة في فرنسا فوق القانون، والقانون هو الذي يحمي الفرد من الاستبداد، واكدت ان الحكام ليسو الا مجرد عمال لصاحب السيادة وهو الشعب، وطبقاً للقانون يعملون ويمارسون اختصاصاتهم، وعمّقت المانيا في القرن التاسع عشر مفهوم دولة القانون، من خلال مجموعة من الابحاث والدراسات القانونية، التي وضعت الاسس والخطوط العريضة التي يجب ان تقوم عليها دولة القانون، منها علي سبيل المثال ما قاله (تروبه): (انه اذا كانت كل دولة قانون ليست بالضرورة دولة ديمقراطية، فأن كل ديمقراطية يجب ان تكون دولة قانون)، واشارت ابحاثهم ايضاً الي ان اي دولة قانون يجب ان تقوم علي القواعد التي تضمن الحريات للمواطنين.
          ومن هذا وذاك تأتي أهمية بناء دولة القانون وتوطينها في التربة الوطنية، من اجل مصلحة المواطنين وضمان حريتهم وحقوقهم، وحفاظاً علي انسانية الانسان ككائن قدسته جميع الديانات السماوية، وأكرمته كل الافكار والقوانين الوضعية الحقيقية، وتاتي أهمية التوجه نحو بناء دولة القانون من أجل كبح جماح تمدد الطغيان والاستبداد، وقطع الطريق امام بروز طغاة ومستبدين جدد، يعبثون بمقدرات الانسان ويدنسون قدوسيته، ومن اجل تعزيز كرامة الانسان لكونه كائن ميزه الله تعالى عن الحيوان بالعقل، الذي يجب ان لا يمس بالضرر ليساهم في بناء الحضارة الانسانية واغنائها، وتاتي دولة القانون في النقيض عن الدولة البوليسية، التي تتعارض مع فكرة دولة القانون كلياً، فدولة البوليس تعمل من اجل غايتها وتطلعاتها الفردية، وهي تشكل تهديداً للحريات العامة والحقوق من خلال تغليب ضرورات السلطة علي ضمانات حقوق الافراد والحريات العامة، وفي الدولة البوليسية يتم التداخل التام ما بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وكل القرارات فيها تتجه نحو تحقيق اهداف وتطلعات الشريحة المسيطرة علي مقاليد السلطة، وفي سبيل تحقيق ذلك تستخدم كل انواع الارهاب والعنف والبطش والتنكيل، وحتي استخدام القوة المسلحة ضد خصومها ومواطنيها، في حين نجد ان دولة القانون يتم فيها المساواة بين المواطنين حكام ومحكومين، الجميع يخضع لذات الحقوق وعليه ذات الواجبات، ويخضع الكل حكام ومحكومين لذات القوانين ولنفس القواعد التي وضعتها دولة القانون، فهي اذن خادمة للحريات العامة وحامية لحقوق الافراد، وكذلك تختلف دولة القانون عن الدولة الشمولية، حيث نجد ان الدولة الشمولية تعتبر نفسها فوق القانون، وهي مصدر كل القوانين، وبالتالي هي السيد والآمر والناهي، والسلطات والقانون يعتبر اداة طيعة في يدها، حيث لا مساحة لحقوق الافراد الشخصية والذاتية، ولا حريات عامة، ولا حقوق للمعارضة ولا حظوظ  للرأي الاخر فيها، ولا مساحة لحرية التعبير والصحافة والاحزاب ومنظمات المجتمع المدني فيها (المانيا النازية وايطالياالفاشية) علي سبيل المثال، وفي المنطقة العربية والاسلامية فحدث ولا حرج، حيث تنفرد بالسلطة مجموعة أو شريحة اجتماعية محدودة تسيطر علي مقدرات الدولة، و تقضي علي حقوق الافراد وتصادر الحريات العامة، وتزج بنشطاء الرأي ودعاة حقوق الانسان والمجتمع المدني، والمثقفين والناشطين سياسياً في السجون، وتقطع مصادر رزقهم وتتركهم لفترات طويلة دون محاكمات عادلة، أو الدفع ببعضهم الي محاكمات استثنائية لا تتوفر فيها ادني شروط التقاضي، ويتم قمع المعارضين وضرب المتظاهرين المطالبين بحقوقهم الشريفة والشرعية، المتمثلة في ابسط حقوق الانسان في الحرية والعيش الكريم، وفوق هذا وذلك يتم وصفهم بأوصاف ونعتهم بنعوت مثل (الجرزان والخفافيش وشذاذ الآفاق والمرجفين والعمالة للاجنبي والطابور الخامس... الخ)، وهذه تعتبر محاولة رخيصة ومجانية لصرف الانظار عن قضايا المواطن الاساسية، وهذا الجنوح ان دل انما يدل عن افلاس هؤلاء الحكام، - افلاس خطاب وافلاس برنامج -، وعجز عن ايجاد بدائل وحلول للازمات التي اوقعوا بلدانهم فيها، بانفرادهم بالقرار وتجبرهم، وجبروتهم الذي لم يترك لهم مساحة لإعمال الفكر والعقل، لذا لجأوا الي الاساليب الرخيصة والالفاظ المجانية، والعنف بكل انواعه، ومثل هذه الاساليب كما اثبتت التجارب لا تثني المطالبين بالحقوق عن السير قدماً نحو مطالبهم واهدافهم الشريفة والمشروعة، اذن واقع بلداننا العربية والاسلامية لا تزال بعيدة كل العبد عن مفاهيم واهداف دولة القانون، بل ليس هناك ادني استعداد من المسيطرين علي السلطة للانحياز والتوجه نحو انجاز دولة القانون، مما يلقي باعباء جسام علي كاهل المنادين والناشطين في مجال التغيير وانجاز دولة المواطنة والقانون والعقد الاجتماعي، ومن هنا تاتي اهمية نشر وتعزيز وتجذير هذه المفاهيم بشكل عام ومفاهيم دولة القانون علي وجه الخصوص.
          ولكي نجذر مفهوم دولة القانون في التربة الوطنية ونجعله واقع معاش، لابد من ان نتعرف اولاًعلي  المفهوم المعاصر لدولة القانون، الذي يرتكز علي ثلاث عناصر اساسية علي حسب علماء السياسة والقانون والاجتماع والفلسفة، وهذه العناصر متصلة بالحكم وبدونها لا يمكن ان نتحدث عن دولة قانون، وهي: هدف الحكم/ وسائل ممارسة الحكم/ ونوعية الحكم.
اولاً: هدف الحكم: دولة القانون تهدف في الاساس الي إقامة نظام سياسي (حكم) يهدف الي حماية الحقوق والحريات العامة، ويتم ذلك من خلال تقيد السلطتين (التشريعية والتنفيذية) وكذلك حماية الافراد وممتلكات الدولة وحفظ الامن وتحقيق الاستقرار، أي ان دولة القانون هي التي تخضع لنظام قانوني ذاتي يمتد من الدستور الي اقصى القواعد القانونية، وتنصاع ايضاً الي مبادئ وقواعد غير منصوص عليها في القانون الوضعي، ويتوجب علي كافة السلطات التقيد بها، اذن دولة القانون هي الدولة التي لا تقيد الحقوق والحريات العامة الا بالقدر الذي يكفي لتأمين مقتضيات الامن والاستقرار، وبما يؤمن حسن ممارسة هذه الحقوق والحريات العامة، ويوفر المناخ المناسب لعملية التنمية الشاملة والمستدامة والمتوازنة.
ثانياً: وسائل الحكم: واول هذه الوسائل هو الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، وهو يعتبر من اهم المبادئ الدستورية في الدول الديمقراطية المعاصرة، حيث يقول مونتيسكو: (ان الحل الوحيد لاجبار الحاكم علي الاعتدال ومنعه من الانحراف هو الفصل بين السلطات)، وارجع مونتيسكو اسباب هذا الفصل الي مبررات فلسفية وتاريخية وبشرية، حيث قال في كتابه (روح القوانين) فيما معناه: ان التجربة اثبتت ان كل انسان يتمتع بسلطة لا بد من ان يسئ استعمالها الي ان يجد الحدود التي توقفه، فالفضيلة في حد ذاتها في حاجة الي حدود، ولكي لايتم اساءة استعمال السلطة فأنه يتوجب ان يكون النظام قائماً علي اساس ان السلطة تحد السلطة، ويلخص د. بسام دلة: مبدأ الفصل بين السلطات عند مونتيسكو في ثلاث افكار مترابطة وهي: (ان حماية الحرية تتم بعدم اساءة استعمال السلطة، ويتم منع اساءة استعمال السلطة عن طريق ايجاد حكومة معتدلة، ونصل للحكومة المعتدلة عن طريق الفصل بين السلطات)، وبذلك يعتبر مبدأ الفصل بين السلطات من أهم كوابح وموانع الحكم من ان يميل نحو الاستبداد، وكذلك يعتبر هذا المبدأ المدخل الاول لصيانة الحريات العامة والانتقال نحو بناء دولة القانون. وثاني هذه الوسائل هو رقابة القضاء، ان الرقابة القضائية تعتبر من الوسائل التي تساهم في حماية الحريات وحقوق الافراد، فالسلطة التشريعية في اصدارها لتشريعات لا تستطيع في دولة القانون ان تخالف احكام الدستور في نصها وفي روحها، ولضمان ذلك لا بد من ان تكون هنالك رقابة على دستورية القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، وايضاً يجب ان تتفق اعمال وتصرفات السلطة التنفيذية مع احكام الدستور، وكما يجب ان تتؤام احكام القواعد القانونية واللوائح التنظيمية الاخري ايضاً مع احكام الدستور، والرقابة القضايئة هي الضامن الفعَّال لاحترام السلطة التنفيذية لهذه الاحكام، من خلال دعوة الالغاء والتعويض. والوسيلة الثالثة هي استقلال القضاء، حيث ان عليه يتوقف الوجود الفعلي لبقية مقاومات دولة القانون، لان القضاء المستقل يعتبر من أهم الدعامات الاساسية لقيام دولة القانون، فلا قيمة للدستور، ولا لمبدأ الفصل بين السلطات، ولا لاعلان الحقوق الفردية، ولا لرقابة القضاء، بدون استقلال تام للقضاء، واستقلال القضاء يعتير امر لابد منه لقيام دولة القانون، واستقلال القضاء يجب ان يتجسد علي المستوي الشخصي من خلال الكيفية التي يتم بها اختيار القضاء، والحصانة، والنظام المالي والاداري الخاص بالترقية والنقل، والحياد في مواجهة الخصوم، والاستقلال الوظيفي للقضاء يتم عبر وضع كل اعمال السلطة التشريعية والتنفيذية تحت رقابة القضاء، وعدم تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في عمل القضاء، كما يجب احترام الاحكام و متابعة تنفيذها.
ثالثاً: نوعية الحكم: لاشك ان نوعية الحكم التي تتؤام وتنسجم مع والوسائل والاهداف سالفة الذكر، هي نوعية الحكم الذي تكون فيه الطاعة والخضوع من كل افراد المجتمع حكام ومحكومين الي القانون والمؤسسات، وفكرة السيادة والخضوع للقانون وللمؤسسة الدستورية، لا تتأتي الا من خلال آلية سياسية تتجسد في الكيفية التي يتم بها اسناد السلطة، وهذا الاسناد لا يمكن ان يتم الا عن طريق وحيد وهو طريق الشعب، وهذا الطريق الوحيد لا يتوفر الا في النظرية المجربة حتي الان كنظام للحكم، وهي الديمقراطية، فالحكم الديمقراطي هو منطلق ومآل ونمط حياة ونظرة ذاتية للاخر وليس نظام للحكم فحسب، وهو يعكس ويجسد نظرة الشعب بصفته صاحب الحق الاول والوحيد والطبيعي في التعبير عن نفسه وتحقيق ذاته، وذلك من خلال المشاركة الواسعة في تقرير مصيره بالطريقة التي يراها مناسبة، والتعبير عن امكانياته واختيار من يحكمه دون خوف من احد، وفي ممارسة كافة حقوقه الانسانية التي نص عليها الميثاق العالمي لحقوق الانسان، والحكم الديمقراطي كنوعية حكم لدولة القانون لا يحتاج الي اناس اطهار ومعصومين لمارسة الحكم، بل يحتاج الي بشر عادين يتحلون بالمبدئية والاستعداد التام لخدمة اوطانهم بكل جد واخلاص وتفاني، ويخضعون لسيد واحد وهو القانون.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق