مسرحية صور للتعايش والسلام لجماعة مسرح السودان الواحد مارس2005
الصراع الدرامي داخل العرض يختلف كليا عن المبدأ القائل بصراع
الشخصيات ليقدم صراع آخر هو صراع الأفكار
يمكن
القول أن بنية الحكاية التي تقوم عليها المسرحية يتجاوز وصفها المبدأ القائل بصراع
الشخصيات إذ أن المخرج استخدمها ليقيم
عليها بناء مركبا يبلور من خلاله
فكرة مدهشة ينبع التوتر الدرامي فيها من صراع مختلف كليا ، هو صراع الأفكار ووجهات
النظر أكثر من ما ينبع من صراع الشخصيات ، ورغما عن أن هذا الطرح يعد مدهشا لحد ما
كونه ينم عن تخيله مسرحية شرسة ورؤى معرفية تتجاوز حدود الراهن اليومي محاولة بذلك
البحث عن إمكانية إجابة مستقبلية بتشخيص دقيق وعمق أكثر دقة إلا انه وبذات القدر
حوي في نسيجه الدرامي قفزا عرضيا في بطن القضية التي يتناولها .. فالمسرحية تعكس
عبر لوحات أدائية مختلفة واقع الحياة الاجتماعية للسودان الجنوبي بعاديته التي قصد
المخرج من خلفها أن يبث فكرة الاستقرار وبساطة الحياة لجموع القبائل السودانية
الجنوبية بإشكالاتها البسيطة قبل ان تشتعل الحرب التي كانت سببا مباشرا لتفكيك تلك
البساطة والاستقرار الاجتماعي الذي أفضي بدوره لمجموع هجرات سكانية نحو "
مركز " المركز الذي يتعرض فيه المواطن الجنوبي لعدد من الإشكالات أبرزت المسرحية أهمها أي مشكلة القهر والتسلط
التي تقابله من جهات مختلفة تطره لاتخاذ مواقف عدائية ، تصل بعد تفاقمها المكرر
إلي زرع نوع من عدم الثقة بينه وبين
الأخر ومن ثم رحلته في البحث عن مخرج من ذلك المأزق ينتهي بان يولي ظهره للشمال
الجغرافي بكل محتوياته وكذا الأمر بالنسبة للشمال الثقافي .
يتخذ
هذا المشهد والذي اختتمت به المسرحية عدة احتمالات أجوبة تظل جميعها ممكنة الحدوث
طالما بقي الأمر علي ما هو عليه ، إلا أن ما دعوناه سابقا بمسألة الأفق المستقبلي الذي اجترحه
العرض ينبع بالأساس من رؤية مفادها ا الشرط الموضوعي لتغير مألات الحدث المسرحي
يفضي بالضرورة إلي نتائج تذهب في اتجاه " الخروج عن دائرة القهر ومواجهته بكافة
السبل المعروفة والمتاحة " من هنا تبرز خطورة وانفتاح افق العرض فوفقا له يمكن أن تكون الحادثة التي يمسحها
مخزونا لإشكالات يمكن انفجارها في أي حين إذ أن كل ما يدعو للتكهن ببروز احتمال أخر لم تتوفر له الشروط الموضوعية
والاجتماعية في جذريها السياسي ، والذي يبني العرض من خلال مشهد الهتاف
التقليدي بأنه لا أمل فيه والاجتماعي ،
ويمكن اعتبار هذه الفكرة بمثابة نبوة باكرة لحدث مؤجل لم تستطع كل القوة الفاعلة
اجتماعيا في التنبؤ بمألاته الممكنة
مستقبليا ويمثل في نفس الوقت دعوة جادة لإعادة التفكير ثقافيا في مشكلة لا زالت
عالقة بين السماء والأرض ، وفي هذه المستويات المختلفة يبرز تفرد العرض اذ يمكن
اعتباره نظر مستقبلي فاحص استطاع استجلاء المتوقع اجتماعيا قبل حدوثه وحمل في
طياته تلك الدعوة المتمثلة في إعادة التفكير نقديا في خفايا الإشكال .
وتلك هي السمة الغالبة للمسرح الجاد كما يقول
بذلك الناقد المجري " جورج لوكاتش " فهو يعتبر ان شكسبير وعبر مسرحية
" يوليوس قيصر " استطاع ان يقدم نبوة باكرة بانهيار النظام الإقطاعي في
انجلترا وهذا هو واقع المسرح بعمق .
وهكذا
أتت مسرحية " صور للتعايش والسلام " فالحركة الدرامية بداخلها تنتقل
بالمشاهد كليا من عالم التوقع والانتظار السلبي إلي فضاء أكثر تشخيصا وعمقا لتحيله
إلي صدمه بالغة الجراءة بنهايتها المفزعة والتي تحيله هي الاخري إلي الخروج من ذلك
النفق المظلم نفق التردد والحيرة والسلبية .
الرؤية
الإخراجية:
عرض
يقتفي مسيرة شكسبير وغروتوفسكي ومايرهولد من خلال تجريب متعدد المستويات
ý استطاع
المخرج خلق تنويعات مختلفة في متتالية تأثيرية تعكس اسلوب بناء المسرحية
يمكن
القول أن المخرج استفاد من أشكال فنية أخري ووظفها بدقة لخلق متتالية تأثيرية
رائعة الصور تعكس لنا في لوحات راقصة بناء المسرحية الذي يعتمد علي التنويعات
المختلة التي يصب مجراها في تغذية القيمة الأساسية للعرض فعبر اللوحات الاستهلالية
المجسدة في احدي رقصات الصيد استطاع ان يعرض فكرته في عرض رخاء غير عادي يركز عليه
في صورة حية جميلة ويخدم هذا الرخاء كخلفية مناقضة لما سيقع من سؤ طالع .
استفاد
المخرج بشدة من مسرح البانتومايم من حيث
سمح للجمهور باستخدام ذكائه واستنتاج ما يجري علي خشبة المسرح من خلال التمثيل
بحركات الجسم " ملامح الوجه "
فيترك العنا لخيال المتفرج وفي الوقت نفسه يبرز مقدرة الممثل علي التلاعب
بجسده فالبانتومايم يرتبط بفن الرقص ينبع من إيقاعات حركية تتمشي مع الإيقاع
الموسيقي وهو بهذا يعتبر تكنيك داخل العرض يعتمد تجاوز البصر لإثارة الحواس كلها
في أن واحد ويكون الصورة الأكثر بقاء في ذهن المتلقي .
كذلك
استطاع المخرج توظيف فن البالي بنفس الكيفية والاستفادة من قدرته في تجسيد
الرمزيات التجريدية الموحية بالغيبيات التي تحيط بعالم اللاوعي عند البشر ويتجلي
ذلك بوضوح في مشهد طقوس العبور التي تقيمها القبائل الجنوبية لتأكيد انتقال الطفل
من مرحلة لآخري .
استخدم
المخرج مستويات لغوية متعددة وظفت بكاملها لخدمة الفكرة الأساسية للعرض خاصة في
مشهد الهتاف السياسي في المسرحية " يعيش فلان الفلاني " " يعيش
فلان الفلتكاني " فتكثيف اللغة الفضفاضة التي لا تنزع للتشخيص – فلان الفلاني
– انتو ياهو انتو ونحنا يانا نحنا ... وكثرة الإطناب واللعب علي الألفاظ يحيل
اللغة من وسيلة اتصال فعالة بحكم طبيعتها إلي وسيلة تمويه وإخفاء وخداع طبائع
الامور وكأنها تغدو ستارا كثيفا يغلف محتواه الزيف الشعاري والانتهازي كإشارة
واضحة إلي مسالة الشك المرتبط بالخطاب السياسي السوداني في وجدان الجماهير .
يوضح العرض بجلا انه يجمل بداخله نزوع
تجريبي نعتقد وفقا لوجهة نظرنا انه قد وفق منه بجدارة بحيث اختفي العرض اطروحات
" جروتوفسكي " المسرح الفقير من خلال عدم اعتماده علي الديكور ورهانه
الأول علي تقنيات الجسد إلا أن النزوع التجريبي غير المعلن في النص يمكن رصد معالمه
علي مستويين من التجريب يمثل أولهما صور ولوحات راقصة تغيرا للظواهر للعلامات
والرموز عبر لغة مسرحية مبتكرة وترجمة هذه القراءة الجديدة الي تشكيل محسوس قاد
علي توصيلها للمتفرج ، وعبر هذا شيئين لإخراج المسرحيات الأول هو أن نكتشف فكرة
المؤلف ثم نقدم هذا الفكر في شكل مسرحي هذا الشكل اسميه " لعبة المسرح "
وحوله ينبني العرض كله ، إلا أن هناك بعض الهنات تجاوزها المخرج وهي جزء من أدواته
مما قلص من مستوي العرض الكلي فالمؤثرات الصوتية لم تكن بالقدر الذي يتماشي مع
طبيعة إيقاع العرض الراقص وحتى في قلتها تلك فقد بدأت بعيدة دعن تجسيد الحالات
الانفعالية المصاحبة لها وكان لها أن تلعب دورا اكبر من ذلك .. والحركة تعاني من
عدم توظيف دلالاتها لخدمة الأفكار التي بثها العرض باستثنا الحركة " الدائرية
"
الأداء
التمثيلي:
كان
الأداء التمثيلي للمجموعة تميزا بعض الشي خاصة في استخدامهم الإيحائي لبعض الديكور والإكسسوارات ، مشهد طقس
العبور مثلا ، بحيث أنهم يمتلكون مخيلة مسرحية استطاعت ان تحيل الجسد إلي مركب
والأرض بحرا وكذلك تميز أداءهم الراقص بشي من المرونة .. فقط عليهم التركيز علي
استخدام ملامح الوجه بشكل أفضل.
ما
لم يقله العرض :
يبدو
أن المخرج وبشكل غير متعمد ركز علي مناقشة المشكلة بمستواها السياسي وحده رغما عن
أنها لها عدد من الامتدادات الاخري يقع
جزء منها في جذور ثقافة الشمال التي لم يتطرق لها العرض بشي وكأنما أراد أن يرد
المشكلة بكاملها إلي كيفيات المعالجة السياسية بمعزل عن البعد الاجتماعي .. فكما
قال بذلك دكتور عبد الله علي إبراهيم ، فان الجزء الذي لا زال مخفيا عن الدرس في هذه المشكلة هو
الإنسان نفسه سواء أكان الإنسان الجنوبي أم الشمالي وهذا ما لم تقله السياسة
السودانية بشقيها لذا نعيب علي العرض انه
وقع في ذات الفخ الذي اقترحه السياسيون وهو عدم ملامسة عصب المشكلة من حيث الدخول
أكثر في المكونات الثقافية للفرد الشمالي واختبار مدي قدرته علي اجتياز رهان
السلام الاجتماعي بشكل أكثر شفافية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق